Tuesday, July 27, 2010

حكاية فيصل السعودي الذي سبق المحقّقين إلى المعلومات
شاهد على الجريمة (أرشيف)بداية عام 2006، اعترف السعودي فيصل أكبر بالمشاركة في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ثم تراجع عن إفادته، مخلفاً وراءه أسئلة يصعب أن تجد من يجيب عنها. فمن السهل تبرير معرفته ببعض تفاصيل عملية الاغتيال، لكن ما يصعب تفسيره هو أن فيصل أورد خلال استجوابه معلومات تتعلق بجريمة الاغتيال قبل أربعة أشهر من توصل المحققين إلى معرفتها!
حسن عليق
ليس محمد زهير الصديق الشخص الوحيد الذي اعترف بمشاركته في التخطيط لاغتيال الرئيس رفيق الحريري؛ فثمة مَن أقرّ بأنه شارك في التنفيذ المباشر للجريمة، ضمن خلية تبين أن لها صلات تنظيمية وفكرية مع تنظيم «القاعدة» العالمي. هو السعودي فيصل أكبر الذي أوقف في نهاية عام 2005، وحقق معه فرع المعلومات لأيام عديدة (نشرت «الأخبار» محضر التحقيق معه بعد صدور القرار الاتهامي بحقّه، ابتداءً من يوم 9 تشرين الأول 2007) لأنه أحد أفراد ما بات يعرف باسم مجموعة الـ13 التي أوقف أفرادها خلال الأيام الأخيرة من عام 2005 والأيام الأولى من عام 2006. وبحسب محاضر التحقيق مع أفراد المجموعة، فإن أميرها، اللبناني حسن نبعة، كان «أمير تنظيم القاعدة في بلاد الشام»، أي في لبنان وسوريا، وكان على صلة مباشرة بأمير التنظيم في العراق، أبو مصعب الزرقاوي.
توقيف مجموعة الـ13 أتى في سياق بحث القوى الأمنية عن أحمد أبو عدس، الشاب الذي تبنى في شريط مصوّر عملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري بعد ساعات قليلة على وقوع الجريمة يوم 14 شباط 2005، ولم يظهر له أثر منذ ذلك الحين. فبعض أفراد المجموعة يعرفون أبو عدس (لقبه أبو تراب) معرفة وثيقة، وثمة من تربطهم صلة قوية بخالد طه. والأخير يُعد في قاموس التحقيق باغتيال الحريري، مفتاحَ الوصول إلى أبو عدس. فهو صديقه وتلميذه. وقبل الجريمة بنحو شهر (تحديداً يوم 15 كانون الثاني 2005) دخل خالد طه الأراضي اللبنانية آتياً من دمشق، بحسب ما يظهر في سجلات الأمن العام اللبناني. في اليوم التالي، عاد خالد طه إلى سوريا، واختفى أبو عدس!
توقيف حسن نبعة جاء من طريق الصدفة. كان محققو فرع المعلومات يطاردون أحد أفراد المجموعة، طارق الناصر، عندما كان يتصل من هاتف عمومي قرب صيدلية مازن في منطقة كورنيش المزرعة. انتبه المحققون أثناء المراقبة إلى وجود شخص يقف على مسافة غير بعيدة من كشك الهاتف. وعندما انقضّت الدورية على طارق، اتجه محقق صوب هذا الرجل وأوقفه، قبل أن يصل رئيس الدورية ليسأله عما يفعله في هذا المكان. فأجاب نبعة بأنه في طريقه إلى منزله. وقدم هويته باسم مزور، وعلى أساس أنه مهندس لبناني، تبين لاحقاً أنه استشهد في العراق. وعند تفتيشه، عثر معه على بخاخ من الغاز الذي قال إنه يستخدمه للدفاع عن النفس. لكنه لم ينتبه إلى أن مصدر الإنتاج هو قوات حلف شمالي الأطلسي، فتقرر تكبيله وسوقه إلى مقر فرع المعلومات. هناك، وُضع في إحدى النظارات، فيما وضعت صورته على حائط يراها بقية الموقوفين أثناء التحقيق. وعندما شاهد فيصل صورته دُهش وقال: الأمير هنا؟ عندها تنبه المحققون إلى أن الموقوف ـــــ بالصدفة ـــــ ليس سوى أمير هذه المجموعة، وهو اللبناني حسن نبعة، قبل أن تتكشف تفاصيل كثيرة تخص هويته ودوره وموقعه.
على محضر التحقيق مع المجموعة، يخيّم طيفا أحمد أبو عدس وخالد طه. معظم الأفراد الرئيسيين في المجموعة يعرفونهما. أحدهم، هاني الشنطي، قال في إحدى مراحل الاستجواب إنه استضاف، في منزل عائلته بخلدة، خالد طه خلال زيارته لبنان يومي 15 و16 كانون الثاني 2005 (عندما اختفى أحمد أبو عدس)، مؤكداً أن زيارة طه تلك أحيطت بالسرية. وتكشف المحاضر أن طه انتقل نهاية عام 2005 من سوريا إلى لبنان، بعدما اشتدت حملة الأمن السوري على مجموعات القاعدة في سوريا، وأن أفراداً من مجموعة الـ13 ساعدوه على التواري عن الأنظار في مخيم عين الحلوة.
لكن الحديث عن خالد طه يصبح ثانوياً أمام إفادة فيصل أكبر. فالشاب السعودي يصل مباشرة إلى بيت القصيد، معلناً خلال التحقيق معه أنه كان أحد أفراد المجموعة التي اغتالت الرئيس رفيق الحريري، والتي كان يرأسها جميل السوري، نائب أمير تنظيم القاعدة في بلاد الشام (يتولى أيضاً منصب المسؤول الأمني للتنظيم). إلا أن محاضر التحقيق سرعان ما تُظهر أن فيصل تراجع عن إفادته، مدعياً أنه كذب في كل ما قاله، رغم أنه ذكر معلومات لا يعرفها غير المحققين، إضافة إلى بعض الوقائع التي لم يكن المحققون أنفسهم قد توصلوا إليها.
كيف اعترف فيصل أكبر؟ وكيف تراجع؟
أحد المعنيين بالتحقيق باغتيال الحريري ينقل عن مصادر مقربة من فرع المعلومات رواية تفصيلية لما جرى في إحدى غرف التحقيق. تقول الرواية إن محققي فرع المعلومات، عندما كانوا يستجوبون أفراد مجموعة الـ13 (ابتداءً من يوم 3/1/2006، المحضر الرقم 17/302) أوهموا فيصل أكبر بأن خالد طه صار في قبضتهم. تضيف الرواية إن فيصل انهار وقال للمحققين: سأخبركم بكل شيء.
كان في غرفة التحقيق ستة عاملين في فرع المعلومات، ثلاثة ضباط وثلاثة رتباء. سريعاً، روى فيصل أكبر الرواية كاملة. تحدّث عن عملية اغتيال الحريري والإعداد لها. قال إنه استقبل أحمد أبو عدس وخالد طه في دمشق يوم 18/1/2005 (بعد يومين على اختفاء أبو عدس)، وإن الفيلم الذي تبنى فيه أبو عدس عملية التفجير
وسام الحسن وسمير شحادة انفردا بفيصل ثم أبلغا فريق التحقيق: يريد التراجع
قدّم معلومات عن طريقة إحضار السيارة المفخّخة قبل عام من وصول المحققين إلى النتيجة نفسها
صُوِّر في إحدى الشقق التي يستخدمها تنظيم القاعدة في حي ركن الدين بدمشق. حدّد شقة في الضاحية الجنوبية لبيروت (المريجة) استُخدمت خلال الإعداد للجريمة. قال إنه رافق جميل (نائب أمير تنظيم القاعدة في بلاد الشام) يوم اغتيال الحريري إلى منطقة عين المريسة، حيث كان جميل يتلقى اتصالات من فريق مراقبة مكون من 5 أشخاص. أضف إلى ذلك أن محاضر التحقيق تنقل عن فيصل قوله إن شاحنة الميتسوبيشي التي فخخت وفجرت بموكب الحريري اشتُريت من منطقة شمال لبنان.
عند الخامسة فجراً من اليوم التالي لبداية التحقيق، كان الرجل قد أنهى الرواية كاملة. خرج اثنان من الرتباء إلى منطقة الضاحية الجنوبية لبيروت، ليُحضروا «السودة النية» من المسلخ الذي يقع أول برج البراجنة (نزلة العاملية). بعد عودتهما، جلس الرتباء الثلاثة والضباط الثلاثة ليتناولوا الطعام داخل الغرفة التي يجلس فيها فيصل أكبر. دعا أحد الرتباء النقيب وسام عيد لمشاركتهم تناول الطعام. لكن عيد خرج من الغرفة. لحق به الرتيب قائلاً: لماذا غضبتَ سيدي؟ ألا تريد تناول الطعام معنا؟ أجابه عيد: «كلا، لقد قرفت منه. هل تريدني أن أتناول الطعام مع من قتل الرئيس الشهيد؟».
فيصل أكبر لم يأكل. يكاد يكون أكل اللحم النيء محرماً بالنسبة إليه. لكنه قال للمحققين: الآن فهمت ماذا كان يعني قول زبائن أبو أحمد (صاحب مطعم صغير في منطقة كورنيش المزرعة): نريد سندويش رجالي!
كان التحقيق الأولي قد انتهى. اتصل وسام عيد بأحد الأشخاص، ثم عاد وقال لأحد الرتباء: حُلت مشكلتك. اشترينا لك شقة. فُتح نقاش بين الرتباء والنقيب عيد، عن أحقية كل منهم بالحصول على مكافأة. كان الحديث في إطار المزاح، لكنه لم يخل من الجدية، وخلاصته أن جميع الموجودين في غرفة التحقيق مقتنعون بأنهم تمكنوا من كشف جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
كان الأمنيون بانتظار وصول رئيس الفرع، الرائد سمير شحادة، من أجل أن يتصل الأخير بالقاضي سعيد ميرزا لنيل إذنه بالتوجه إلى الضاحية الجنوبية بهدف تحديد الشقة التي ذكرها فيصل. عندما حضر سمير شحادة، أبلغه المحققون بتفاصيل ما جرى. سريعاً، بدأت الحركة تتغير داخل مبنى فرع المعلومات. حضر وسام الحسن وتوجه إلى مكتب سمير شحادة. وبعد قليل أُدخِل فيصل أكبر إلى المكتب ذاته. دام اجتماع شحادة والحسن بفيصل أكثر من 6 ساعات، أحضروا خلالها الطعام من أحد المطاعم البيروتية الشهيرة. لم يعرف أحد ماذا دار خلال تلك المدة بين الضابطين والموقوف. لكن ما جرى بعد ذلك يخلّف وراءه أسئلة من دون أي جواب مقنع. فبعد خروج وسام الحسن من مبنى فرع المعلومات، أرسل سمير شحادة خلف عدد من المحققين قائلاً لهم: فيصل يريد التراجع عن إفادته. أسقط في أيدي رجال الأمن الذين قضوا الليلة السابقة مقتنعين بأنهم أمسكوا بالخيط الأول الذي سيوصلهم إلى كشف من قتلوا الرئيس رفيق الحريري. فإفادة فيصل لا تزال في بدايتها. ورغم ما تحويه من ثغر كبيرة لا بد من توضيحها، يبقى فيها من المتانة ما يمكن الاستناد إليه لفتح مسارات تحقيقية جدية.
سأل أحد المحققين الموقوفَ، بحضور شحادة، قائلاً: لماذا ستتراجع؟ رد فيصل: أُخِذت أقوالي مني تحت الضغط. وعبارة «تحت الضغط» توقف عندها عدد من الحاضرين. فهي لا يستخدمها عادة الموقوفون، بل يستخدمها رجال الأمن والتحقيق اللبنانيون.
حكاية فيصل السعودي الذي سبق المحقّقين إلى المعلومات
محقق دولي وأمنيون لبنانيون خلال إجراء مسح ثلاثي الأبعاد لمسرح الجريمة (أرشيف)دار «حوار» بين فيصل والمحققين. لكن في النهاية، أصر فيصل على تراجعه. ومعه، خفَت التحقيق الذي لم يتوصل إلى تحديد مكان أحمد أبو عدس، ولا إلى الحصول على معلومات ذات أهمية عنه. أما خالد طه، فكل ما عُرِف بشأنه أنه توارى عن الأنظار في مخيم عين الحلوة خلال الشهر الأخير من عام 2005.
وبعد تراجع أكبر عن اعترافه بالمشاركة في اغتيال الحريري، ترك أمام المحققين باباً مفتوحاً لم يحسنوا استغلاله. قال لهم، بحسب محضر التحقيق، إنه سمع أميره حسن نبعة يوصي عدداً من أفراد المجموعة بألا يبوحوا بمعلومات عن أحمد أبو عدس إذا أوقفتهم القوى الأمنية.
ثمة أكثر من رأي لتبرير ما جرى. المقربون من فيصل أكبر، وعلى رأسهم حسن نبعة الموجود في سجن رومية، يقولون إن فيصل لم يعترف، ولم يتراجع، بل إن المحققين الذين عرّضوه لأبشع أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، هم الذين دوّنوا كلاماً لم يقله، ثم دونوا كلاماً مناقضاً، وأجبروه على توقيع المحضر. وعندما يُسألون عن السبب، يجيبون بالقول: نحن لا نعرف الدافع الحقيقي لذلك، بل لدينا تحليل يدلنا على ثلاثة أسباب. ربما هي رغبة المحقق في تسجيل إنجاز، وربما هو تأثره المذهبي بما يجري في العراق (يقصدون الملازم أول ر. ف.). وقد تكون ثمة رغبة في إحدى الدوائر بتقديم أوراق للمساومة، وإبقاء ملف التحقيق مع مجموعة الـ13 جاهزاً لتقديمه ككبش فداء في أي لحظة تصل فيها الصفقة السياسية إلى خاتمتها.
ريفي والحسن: تضليل التحقيق
فيصل أكبرهذه خلاصة رواية المجموعة. أما في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي وفرع المعلومات، فالمسؤولون الذين كانوا مشرفين على التحقيق (وخاصة اللواء أشرف ريفي والعقيد وسام الحسن) يؤكدون أن فيصل لم يتعرض لأي ضغط أو تعذيب، سواء خلال الاعتراف أو عند التراجع. ويقول المعني الأول بهذا الملف إن فيصل أكبر اعترف باغتيال الحريري لتضليل التحقيق، وكان «يريد إلهاء المحققين بهذا الحدث الكبير للتهرب من الإجابة عن أسئلة عن عمل تنظيمه». لكن أيعقل أن يعترف إنسان ما باقتراف جريمة بهذا القدر من الخطورة لتضليل التحقيق؟ يجيب المسؤول ذاته: نعم، هكذا هم جماعة تنظيم القاعدة.
ثم يعطي المسؤول دليلاً على كلامه بالقول: عندما اعترف الرجل واتصل سمير شحادة بوسام الحسن ليخبره بتطورات التحقيق، قال له الحسن: دوّنوا الإفادة. وفي الصباح، حضر وسام الحسن إلى مبنى فرع المعلومات ليقابل شحادة. وفور وصوله، أخبره شحادة بأن فيصل تراجع، فقال له وسام الحسن: دوّنوا الإفادة. وينفي الحسن أن يكون قد التقى فيصل أكبر في ذلك الصباح. يضيف المسؤول: كان بإمكاننا، لو كانت لدينا نية سيئة، أن نتجاهل الإفادة الأولى وألا ندونها. لكننا دوناها رغم معرفتنا بأنها ستتحول إلى إفادة علنية بعد إحالتها على القضاء.
خالد طهإلا أن تبرير المشرفين على التحقيق تنقضه التفاصيل التي أوردها فيصل أكبر في إفاداته، والمطابقة لمضمون التحقيقات الدولية والمحلية باغتيال الحريري، مثل تاريخ دخول خالد طه إلى لبنان وعودته إلى سوريا وتاريخ اختفاء أحمد أبو عدس وتفاصيل التفجير، إضافة إلى عدد الهواتف الخلوية التي يعتقد أن المجموعة التي اغتالت الحريري استخدمتها خلال مراقبته حتى الدقائق الأخيرة السابقة لاغتياله. فمن أين استقى فيصل هذه المعلومات التي تطابق ما هو وارد في التحقيقات الأولية بجريمة اغتيال الحريري؟ يقول المشرفون على التحقيق في فرع المعلومات إن التفاصيل التي أوردها فيصل في إفادته مستقاة بكاملها من التقريرين الصادرين عن لجنة التحقيق (الأول والثاني) اللذين كانا قد نُشرا قبل توقيفه. يضيف هؤلاء إن حاسوب فيصل أكبر يحوي نسخة عن كل واحد من التقريرين. ويقول الأمنيون ذاتهم إن فيصل أكبر، عندما استمعت إليه لجنة التحقيق الدولية بعد أكثر من عام على التحقيق معه في فرع المعلومات، لم يتعرف إلى الصور التي عرضها عليه المحققون الدوليون، والتي تظهر فيها شوارع تحدّث عنها وربطها بجريمة اغتيال الحريري، كأحد شوارع منطقة ركن الدين في دمشق. ويلفت أحد الأمنيين اللبنانيين المعنيين بالتحقيق مع فيصل أكبر قائلاً: عندما أنهى المحققون الدوليون استجواب فيصل، قال لهم ضاحكاً: هل صدقتم أنتم أيضاً ما قلته في التحقيق عن المعلومات؟
«مصادفات» غريبة
هاني الشنطيرواية المعنيين في فرع المعلومات تجد من يفندها ويرد عليها بسهولة. يقول أحد المعنيين بالتحقيق: في البداية، لم تكن دائرة القرار عند آل الحريري وفي فرع المعلومات قادرة على تجاهل تدوين الإفادة، وخاصة أن اعتراف فيصل جرى بحضور ستة محققين، بينهم أمنيون غير مأموني الجانب، من الناحية السياسية على الأقل.
وما يقوله المشرفون على التحقيق مع فيصل أكبر تعتريه ثُغر عدة، أبرزها اثنتان. الأولى أن ثمة في رواياته «مصادفات» غريبة، لناحية تزامن بعض المحطات في إفادته مع التوقيت الذي ظهر في بيانات الهواتف الخلوية التي استخدمها مراقبو تحركات الحريري. وفي إفادته، قال فيصل أكبر إن مجموعة المراقبة مؤلفة من خمسة أشخاص، وإنهم كانوا يتواصلون مع جميل، مساعد أمير تنظيم القاعدة في بلاد الشام الذي كان فيصل يرافقه يوم الجريمة. وعندما سئل فيصل عن عدد الهواتف الخلوية المستخدمة، قال إنها سبعة: خمسة للمراقبين، وسادس مع جميل والسابع في حوزته هو (فيصل). وقال فيصل إن جميل كان يتلقى الاتصالات من المراقبين. ولم يذكر ورود اتصالات إليه هو (فيصل) من مجموعة رصد الحريري. بل أكد أن جميل أوصاه بعدم الاتصال به إلا في الحالات الطارئة. نتيجة لذلك، يصبح عدد الأرقام الهاتفية التي تحدث عنها فيصل مطابقة للعدد الحقيقي الذي استخدم لمراقبة الحريري حتى يوم اغتياله. فرغم أن لجنة التحقيق الدولية تحدثت في تقريريها الأول والثاني عن استخدام 8 هواتف خلوية لمراقبة الحريري، فإن التحقيقات التي أجرتها مديرية استخبارات الجيش وفرع المعلومات (قبل لجنة التحقيق الدولية) أظهرت أن المجموعة التي يعتقد أنها راقبت الحريري استخدمت 8 خطوط خلوية هي: 03129893 ـــــ 03129678 ــــــ 03129652 ـــــــ 03127946 ـــــــ 03125636 ـــــــــ 03123741 ــــــ 03478662 ــــــ و03292572.
وتظهر التحقيقات ذاتها أن الرقمين الأخيرين لم يستخدما إلا لإجراء 13 اتصالاً من أصل 432 اتصالاً أجراها أفراد المجموعة في ما بينهم وبخدمة التشغيل في شركة ألفا. ويعتقد الأمنيون الذين عملوا في هذا المسار التحقيقي أن الرقمين الإضافيين أُبقيا احتياطاً، وخاصة أنهما لم يستخدما مطلقاً خلال الأسابيع الثلاثة السابقة لاغتيال الحريري.
ما ذكر عن إفادة فيصل بخصوص عدد الخطوط الخلوية هيّن وضعه في خانة المصادفات. وتزداد المصادفة غرابة عندما يتحدث عن الوقت الذي ترك فيه، مع جميل وخالد طه وأحمد أبو عدس، شقة الضاحية الجنوبية. فهو يقول إنهم عادوا للنوم بعدما صلّوا الفجر، واستيقظوا عند العاشرة صباحاً، وخرجوا لتنفيذ العملية. هذا في إفادته. أما بيانات الاتصالات، فتظهر أن أول اتصال أجرته المجموعة التي يعتقد أنها كانت تراقب الحريري صباح اغتياله، جرى عند الساعة 11:00:55 قبل الظهر، من منطقة تشملها محطة إرسال في شارع كاراكاس.
ذلك كله، يضعه المشرفون على التحقيق في خانة المصادفات. إلا أن ما لا يجدون جواباً له هو المعلومات التي أدلى بها فيصل، رغم أن المحققين أنفسهم كانوا يجهلونها، ولم يتمكنوا من الحصول عليها إلا بعد مضي أربعة أشهر على ختم التحقيق معه، كقصة شاحنة الميتسوبيشي التي استخدمت في اغتيال الحريري. فطوال عام 2005، والثلث الأول من عام 2006، لم يكن لدى فريق التحقيق اللبناني أو الدولي أي معلومات عن الشاحنة سوى أنها سرقت من اليابان في تشرين الأول 2004. ولم يتمكن المحققون من تحديد المسار الدقيق الذي سلكته قبل إدخالها الأراضي اللبنانية، ولا كيفية عبورها الحدود.
جرى شراء السيّارة من طرابلس بطريقة شرعية، لكن باستخدام أوراق ثبوتية مزورة
أجرت المجموعة التي كانت ترصد الحريري 432 اتصالاً خلال الأسابيع السابقة لاغتياله
لكن فيصل أكبر، في الشهر الأول من عام 2006، قال خلال التحقيق معه لدى فرع المعلومات إن جميل أخبره بأن الشاحنة اشتُريت من طرابلس! وبعدما تراجع عن اعترافه، أُهمل هذا الجانب من إفادته، وخاصة أن الفكرة التي كانت تسري كحقيقة مطلقة بين المحققين هي أن الشاحنة أدخلت إلى لبنان بطريقة غير مشروعة. كان على المحققين أن ينتظروا حتى يوم 24 نيسان 2006 حتى تثبت لهم الوقائع أن ما قاله فيصل أكبر بشأن الميتسوبيشي صحيح. ففي ذلك التاريخ، نظم فرع المعلومات محضراً ظهر فيه أن الشاحنة دخلت لبنان براً محمولة على مقطورة كبيرة، مع شاحنة أخرى. وقد استقدمت من الإمارات العربية المتحدة براً عبر السعودية ثم الأردن فسوريا، واستقرت في معرض للسيارات قرب طرابلس، حيث اشتُريت بطريقة شرعية، لكن باستخدام أوراق ثبوتية مزورة. وهذه الحقيقة لم تظهر إلى العلن إلا عندما أعلنتها لجنة التحقيق الدولية بعد أكثر من عام، أي في التقرير الثامن الصادر يوم 12 تموز 2007 (الفقرة 24).
وبعيداً عن التحليل والاستنتاج، ثمة ثغرة في التحقيق باغتيال الحريري، مرتبطة بإفادة فيصل أكبر، لا تجد من يسدها. فصحيح أن لجنة التحقيق الدولية استمعت إلى إفادات عدد من أفراد مجموعة الـ13. وقد استدعي بعضهم لنحو ست مرات، فيما اكتفى المحققون الدوليون باستجواب أحد أبرز أفراد المجموعة مرتين اثنتين فقط، مدة كل واحدة منهما ساعتان، بينها الوقت الذي استهلكه الشاب في الوضوء والصلاة. كل ذلك يمكن تبريره. لكن ما لا يمكن أن تعثر على تفسير منطقي له، هو أن لجنة التحقيق الدولية والمحكمة الدوليّة من بعدها، لم تستمعا إلى أي من المحققين الستة الذين استجوبوا فيصل أكبر، والذين شهدوا تراجعه، لمعرفة ملابسات ما جرى خلال التحقيق معه. كذلك، فإنها لم تستمع إلى إفادة كل من سمير شحادة أو وسام الحسن.
(غداً: أحمد مرعي في مسرح الجريمة)
رسالة إلى خالد طه
خلال التحقيق مع فيصل أكبر، لجأ فرع المعلومات إلى خطوة شديدة الغرابة. فبناءً على أوامر قيادة الفرع، طلب أحد المحققين من الموقوف هاني الشنطي كتابة رسالة إلى خالد طه يطلب منه فيها تسليم نفسه إلى القوى الأمنية اللبنانية! وقد سُمح للموقوف بنشر هذه الرسالة على موقع «الحسبة» الإلكتروني، الذي كان يعدّ في تلك المرحلة أحد المنابر التي يستخدمها تنظيم القاعدة لإعلان إنجازاته. الرسالة التي يذكر فيها الشنطي أحمد أبو عدس (مستخدماً لقبه، أي أبو تراب) بقيت منشورة لأيام عدة قبل أن يحذفها المشرفون على الموقع.
في تلك الرسالة، يقول هاني الشنطي (اسمه الأمني مروان المهاجر):
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحابته الأخيار، أما بعد، فهذه يا أخي الحبيب خالد طه رسالة من أخيك مروان المهاجر (هاني)، أطلب فيها أن تسلم نفسك للسلطات، لا على أنك متهم، بل لتجيب عن بعض الملابسات والمساءلات التي تخص موضوع أبي تراب. فهم لا يريدون منك تراجعاً عن فكرة ومنهاج وتوجه تعتقده وتقتنع به، فأنا بحمد الله على فكري ثابت. فالأمر بإذن الله هين وسهل، ولا داعي لتعقيده. فالاستمرار على إصرارك على عدم تسليم نفسك يمثّل تعقيداً للموضوع واتهاماً لك على أنك تخفي شيئاً ولا تريد إظهاره. ولا تستهن بأي معلومة قد تعلمها تجعلك متهماً، لكن هي في الحقيقة قد تكون خيطاً يدل على المجرم الحقيقي، وخيطاً يدل على براءتك من تهم تكون قد ظنت بك بسبب إصرارك على عدم المجيء والإدلاء بشهادتك، وهذا ما تمنيت لو أني فعلته. فلو أني جئت وأدليت بما أعلمه وما اختفيت لما أصبحت الآن موقوفاً ومتهماً بأني أخفي معلومات والله يشهد أني لا أخفي شيئاً، فلا تضع نفسك في هذا الموقف المحرج، فلا تتأخر ولا لحظة وسارع بالأمر، فالأمر هيّن فلا تعقّده كما كان يوماً من الأيام هيناً عليّ وعقّدته بسبب تشبثي كما أنت اليوم متشبث، لكن مع الفارق وهو أن الأوان لم يفتك، فهلمّ وأرح إخوانك أراحك الله دنيا وآخرة، ولا تظن بذلك أني أطلب ما يتناقض مع ما تآخينا عليه من الجهاد وحب الشهادة، فالله وحده يشهد كم تتوق نفسي إلى ساحات الجهاد ونيل الشهادة ورضوان الله، وإنما كلامي على أمر لا يناقض الشريعة، فالصحابة عندما هاجروا إلى الحبشة وقفوا وأجابوا بكل صراحة عن معتقدهم وما يدينون به، وبرأوا أنفسهم من الاتهامات فاستخر الله عز وجل ولا تستصعب الأمر، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أخوك المحب ورفيق عمرك مروان المهاجر
ملاحظة: أطلب من مشرفي المنتديات تثبيت الموضوع، وعدم حذفه وإني سائلهم أمام الله على إيصال هذه الرسالة وإبقائها حتى تصل إلى أهلها وإني خصيمه يوم الحساب إن حذفها أو ساعد على عدم إيصالها وجزاكم الله خيراً.
الفقير لعفو ربه
مروان المهاجر
(انتهت رسالة هاني الشنطي).
رسالة هاني الشنطي إلى خالد طه، إن دلت على شيء، فإنما تدل على خفة بالتعامل مع هذا الملف، من جانب فرع المعلومات. ويرى أحد الأمنيين المتابعين لقضايا تنظيم القاعدة أن هذه الرسالة، بمجرد وصولها إلى خالد طه، فإنها ستدفعه إلى الحذر، هذا إن لم تكن قد تضمنت رسالة مبطنة له يقول له فيها الشنطي إن فرع المعلومات لا يعرف شيئاً عنه أو عن أحمد أبو عدس.
ويربط الأمني ذاته بين رسالة الشنطي والرسالة التي ضبطت في حوزة حسن نبعة، والموجهة من شقيقه مالك إلى خالد طه. فبعد استدعاء مالك نبعة للتحقيق في تموز 2005، ثم إطلاق سراحه، كتب مالك رسالة إلى خالد طه يقول له فيها إن ما يعرفه المحققون عنه وعن أبو عدس ليس سوى «اجتهادات وظنون». وعندما سئل مالك نبعة خلال التحقيق الثاني معه عن سبب بعثه بهذه الرسالة، قال للمحققين: أردت إقناع خالد طه بالمثول أمامكم!
________________________________________

أبو مصعب الزرقاوي
بين مضبوطات المجموعة، عثر الأمنيون على رسالة موجهة من أبو مصعب الزرقاوي إلى حسن نبعة في منتصف عام 2005، يطلب منه فيها التوجه إلى لبنان، مستخدماً عبارة «اذهب إلى الضيعة».
وخلال التحقيق مع بعض أفراد المجموعة، أفادوا بأن الزرقاوي نحّى حسن نبعة عن الإمارة، لأنه غضب منه بسبب الصراع الذي وقع على الأراضي السورية بين المجموعات التابعة لنبعة وتلك التابعة لتنظيم جند الشام (غير التنظيم الموجود في مخيم عين الحلوة)، محملاً إياه المسؤولية عن تقصير المجاهدين. وبناءً على رسالة الزرقاوي، توجه فيصل أكبر في حزيران 2005 إلى العراق لمقابلة أبو مصعب.
وبحسب ما تظهر وثائق اطّلعت عليها «الأخبار»، فإن فرع المعلومات زوّد أجهزة أمنية أميركية بمعلومات عن الزرقاوي حصل عليها المحققون اللبنانيون من استجواب أفراد المجموعة. وتضمنت إحدى الرسائل التي بعث بها الأميركيون إلى فرع المعلومات أسئلة لطرحها على الموقوفين، بهدف المساعدة على تحديد مكان وجود أبي مصعب الزرقاوي في العراق!
________________________________________

لؤي السقا
في محضر التحقيق مع مجموعة الـ13، يبرز فجأة اسم لؤي السقا. الشاب السوري الموقوف في تركيا، والمتهم بأنه يعمل لحساب تنظيم القاعدة. وقد حكم على السقا في شباط 2007 بالسجن المؤبد، لإدانته بالضلوع في تفجيرات إسطنبول عام 2003. وبحسب إفادات عدد من أفراد المجموعة، فإن السقا كان في إحدى المراحل مرشحاً لتولي منصب أمير التنظيم في بلاد الشام.
وكان اسم السقا قد وضع قيد التداول الإعلامي والسياسي ابتداءً من يوم 8/11/2005، عندما بعث برسالة عبر محاميه من داخل سجنه في تركيا، يقول فيها إن ثلاثة أشخاص أجانب زاروه في سجنه، وعرضوا عليه الإدلاء بإفادة أمام لجنة التحقيق الدولية يقول فيها إن العماد آصف شوكت طلب منه إحضار انتحاري من العراق مباشرة قبل اغتيال الحريري. وقال السقا إن زائريه عرضوا عليه الحماية ومبلغاً كبيراً من المال، إلا أنه رفض.
بعد إعلان رسالة السقا، أعلن وزير العدل التركي حينذاك فتح تحقيق مع محامي السقا، عثمان قره هان، مؤكداً أن كل ما أدلى به وموكله ليس سوى محض افتراء وكذب.
نتائج التحقيق التركي لم تعلن. أما لجنة التحقيق الدولية باغتيال الحريري، فقد استجوبت لؤي السقا في سجنه في آذار 2007، بحسب ما ذكرت وكالة الصحافة الفرنسية آنذاك.

عدد الثلاثاء ٢٧ تموز ٢٠١٠
الاخبار

No comments:

Post a Comment