Wednesday, July 28, 2010

بكركي بين المحكمة الدولية ووزارة المال
جان عزيز
لافت جداً انكفاء بكركي عن السجال الساخن والدائر حالياً حول المحكمة الدولية واحتمالاتها والأزمات الممكن أن ترافقها. حتى إن كثيرين توقّفوا عند نأي الصرح وأهله بأنفسهم عن الدخول في «الحرب» الدائرة، كما عند أسباب هذا الأداء المغاير لما اعتاده البعض في الأعوام القليلة الماضية.
المواكبون لحركة البطريركية المارونية لا يمكنهم عدم الربط بين تلك الملاحظة، وبين عدد من العوامل الأخرى، الخارجية والداخلية. فعلى المستوى الخارجي، هناك الاتجاه الفاتيكاني بالتركيز على أوضاع مسيحيي دول المنطقة، وهو ما ترجم بالسينودس الخاص بالشرق الأوسط، والمزمع عقده بعد أشهر قليلة. وعلى مستوى الداخل، هناك حركة «التشكيلات» والمناقلات البطريركية الأخيرة، التي جنّدت لها حملة كبيرة تحت عنوان «التمني» بعدم فتح ملفها وأسراره ووقائعه. لكنها حركة يؤكد العارفون أنها تعني في السياسة، بقدر ما تعني في «الإدارة».
وبين هذين المستويين، يبدو أن ثمّة مَن أدرك واستدرك من أهل الكنيسة أنه فيما الصرح غارق في الدفاع عمّا يعدّه معركة سيادة البلد، هناك في المقابل مَن يرفع تلك المعركة مجرد عنوان زائف، فيما يدأب في الواقع على ابتلاع البلد من الداخل. وتؤكد المعلومات المتوافرة أنه في الأسابيع الأخيرة سجّلت في الأوساط الكنسيّة حركة متوازية ومتقابلة. من جهة تراجع الاهتمام بالملفات الخارجية المصنّفة من تركة 14 آذار 2005، ومن جهة ثانية تقدّم التركيز على الملفات التوازنية والميثاقية للتركيبة النظامية ومؤسسات الدولة. وفي هذا السياق تشير المعلومات نفسها إلى أن الأوساط الكنسيّة منكبّة في هذه الفترة على دراسة ملفات من نوع بيع الأراضي للخليجيين، ومرسوم التجنيس الذي ثمّة دراسات خطيرة عن تطور أرقامه بعد 16 عاماً على إمراره، كما من نوع التوازن الميثاقي في الإدارة العامة، من قوى الأمن الداخلي، إذ جنّدت الكنيسة حملة كبيرة للحضّ على التطوّع في هذا السلك ـــــ يحكى أنها أدّت المطلوب منها ـــــ إلى متابعة وضع بلدية بيروت وشرطتها، وصولاً إلى الوزارات والمؤسسات العامة والمصالح المستقلة.
ويبادر المواكبون أنفسهم إلى إعطاء مثل واضح عن هذا الوضع، هو ما يتجسّد في وزارة المال. يقول هؤلاء إنه بات معلوماً أن هذه الإدارة الرسمية الأساسية والمفصلية في مختلف أنشطة البلاد، واقعة منذ أمد طويل تحت الوصاية الحريرية. في المقابل، معلوم أيضاً أن بكركي كانت في الأعوام الخمسة الماضية متموضعة في السياسة ضمن خط يخدم الحريريين، ويستفيدون منه بامتياز. مع ذلك، شهدت وزارة المال طوال الفترة نفسها عملية «تطهير عرقي» لكل ما يمتّ إلى بكركي بصلة، كما لكل ما لا يدين بالولاء الكامل والحصري لحلفاء بكركي في قريطم والسرايا. وهو ما كان قد أثير في نيسان الماضي وسُحب من التداول بعد زيارة الوزيرة ريّا الحسن للصرح.
غير أن النهج نفسه استمر. حتى إن تقريراً رُفع أخيراً إلى الأوساط الكنسيّة يفصّل بالوقائع والوثائق كيف ضُرب التوازن داخل وزارة المال، وكيف أُحكمت السيطرة الحريرية على مفصل هو الأخطر في حياة الناس والبلاد. ويشير التقرير على سبيل المثال إلى كيفية تفتيت مديرية ضريبة الدخل في الوزارة، وهي كبرى مديرياتها، التي كرّستها الأعراف لمسيحي، فوزّعت على ثلاث دوائر مستحدثة، لإفراغها من مضمونها، ومن ثم أعطي «فرع التدقيق» في الدائرة الأساسية فيها لموظف حريري الهوى، للإجهاز على أهم إدارة مالية رسمية في البلاد.
وإذ يفصّل التقرير نفسه بالأسماء ما يحصل في هذا القطاع، يتوقّف عند أمرين يعدّهما الأكثر خطورة:
أولاً، استغلال ما سمّي مكننة وزارة المال لإدخال جيش كامل من العاملين على الفاتورة إلى الوزارة، وهم بنسبة مئة في المئة من لون واحد، تولّوا طوال الحقبة الماضية صلاحية الوصول إلى كل المعلومات المالية والضرائبية والاقتصادية للأفراد والمؤسسات والشركات، ما يعدّ من الأسرار القومية البالغة الحساسية.
ثانياً، إقامة وزارة رديفة خارجة عن الدستور والقانون، عبر ما يسمى «المركز الآلي»، الذي يديره «الوزير الفعلي» للمالية، عبر أحد المستشارين المتعاقدين. والمركز المذكور بات اليوم قادراً على إخضاع أي فرد عامل في لبنان عبر سلسلة من الممارسات التي يفصّلها التقرير عبر أمثلة مذهلة...
لمثل هذه الأسباب وسواها الكثير، يشرح المواكبون انكفاء بكركي عن خوض المعارك الآذارية الحالية. ففي مكان ما، ثمّة مَن يتساءل: أوليس ما يحصل في وزارة المال أهم من تطورات المحكمة الدولية؟

عدد الخميس ٢٩ تموز ٢٠١٠
الاخبار

No comments:

Post a Comment