Wednesday, July 28, 2010

عبد اللّه والأسد في بيروت: إدارة الاستقرار أوّلاً
الزيارة المشتركة للملك السعودي والرئيس السوري تتوخى توجيه رسائل (أرشيف)تعيد القمّة الثلاثية الدائر الحديث حول انعقادها غداً في قصر بعبدا، تأكيد نفوذ الرياض ودمشق، ليس على إدارة الاستقرار في لبنان فحسب، بل على كونهما أصبحتا المرجعية التي تنتشل اللبنانيين من الفخاخ التي ينصبونها لأنفسهم
نقولا ناصيف
مفارقات شتى ترافق زيارة العاهل السعودي الملك عبد الله والرئيس السوري بشّار الأسد للبنان غداً.
كانت قد سبقتها زيارتان لعبد الله لبيروت عندما كان لا يزال ولياً للعهد: أولى في حزيران 1998، وثانية في القمة العربية في بيروت في 27 آذار 2002. قبلهما زار لبنان، أميراً، عشرات المرات عندما اعتاد الاصطياف في الجبل، ونسج صداقة أخصّها مع الرئيس سليمان فرنجية وكمال جنبلاط، انتقلت في ظلّ الأب إلى الابن وليد جنبلاط. إلا أن زيارة غد هي الأولى لعاهل سعودي بعد 53 عاماً مذ زار الملك سعود، سلف عبد الله، لبنان أكثر من مرة. شارك في قمّة بيروت الأولى في 13 تشرين الثاني 1956، ثم حضر مجدّداً في 7 أيلول 1957، ثم بعد أسابيع في 10 تشرين الأول لافتتاح دورة الألعاب الرياضية العربية في مدينة كميل شمعون الرياضية، في عهد الرئيس الراحل.
من طريق البرّ عبر دمشق أتى عبد الله إلى بيروت عام 1998. وهو يأتيها مجدّداً غداً الجمعة، من دمشق، بطريق الجوّ مع الأسد.
بدوره، الرئيس السوري يزور لبنان للمرة الثالثة: الأولى في 3 آذار 2002، والثانية في 27 منه مشاركاً في قمّة بيروت نفسها.
وهكذا، فإن الزعيمين اللذين جمعتهما بلبنان علاقات بعضها خاص، والآخر مميّز، يكادان يكونان الأكثر إقلالاً في زيارة البلد الأكثر نفوذاً فيه، والأكثر قدرة على التلاعب بتوازن قواه وتوجيه خياراته وسياساته، والبلد الذي خَبِرَ على أرضه مغازي تنافسهما عليه. في أحسن الأحوال، عرف لبنان على امتداد 35 عاماً حاجته إلى أن تتفاهم الرياض ودمشق على مصيره: في الحقبة السورية سلّمت المملكة للنظام السوري بهذا الدور، فانكفأت أو مارست دوراً في ظلّ وجود الجيش السوري من غير أن تتناقض معه. وعندما خرجت سوريا من لبنان عام 2005 لم يسع السعودية وحدها العودة إليه والاستئثار بإدارته، فاستمر التجاذب حتى 7 أيار 2008. إلا أن الأسد أيضاً لم ينجح في استعادة نفوذه في لبنان، بعد ذلك التاريخ، من دون الاتفاق مع عبد الله. على نحو كهذا، صنعت هاتان العاصمتان قدر اللبنانيين وانقساماتهم على مرّ العقود الأخيرة.
لكن العاهل السعودي والرئيس السوري يزوران لبنان معاً هذه المرة في حمأة مفارقات إضافية:
بعد 53 عاماً يزور ملك سعودي لبنان
1ــ كلاهما يتسلّح بموقف الحياد في مقاربة الوضع اللبناني والتمسّك بضمان استقراره وعدم التدخّل في شؤونه. عندما زار عبد الله لبنان قبل 12 عاماً، كان بتشجيع من الرئيس رفيق الحريري الذي وصف الزيارة آنذاك بأنها تاريخية، رغم أن الزائر كان لا يزال ولي عهد، لا ملكاً. وعندما أتى الأسد كان يزور حليفه القوي الرئيس إميل لحود ويفسح في المجال أمام اللبنانيين جميعاً كي يلتقطوا إشارة أولى من الرئيس الزائر، وهي اعترافه باستقلال لبنان، إذ يقصد عاصمته، وكان قد نفذ حتى ذلك الوقت أكثر من إعادة نشر لجنوده. الأمر الذي تجنبه والده الرئيس حافظ الأسد عندما اكتفى بزيارة شتورة في 7 كانون الثاني 1975 كي يجتمع بالرئيس سليمان فرنجية. ولم تعنِ شتورة حينذاك إلا جزءاً لا يتجزأ من تداخل شرق لبنان مع غرب سوريا.
لكن عبد الله والأسد يزوران بيروت هذه المرة من غير أن يتعمّد أحدهما الإيحاء بأنه يحضر لتعزيز المرجعية اللبنانية التي تمثّل امتداد نفوذه في لبنان. لا الرئيس ميشال سليمان يقف المسافة نفسها من الرئيس السوري، المشابهة لتلك التي اتخذها الرئيسان الياس الهراوي وإميل لحود من الأسد الأب ثم من الأسد الابن. ولا علاقة الرئيس سعد الحريري بدمشق تشبه، حتى الآن على الأقل، تلك التي جمعت والده بالأسد الأب، وإن كانت توحي بأنها تستعجلها.
2ــ مذ تصالحت الرياض ودمشق في كانون الثاني 2009 على مقاربة ملفات إقليمية شائكة، هما معنيتان بها كجزء من استقرار نظامي البلدين ونفوذهما في المنطقة، تصرّفتا على أنهما معنيتان أيضاً باستقرار لبنان وإدارة تفاهم قوى 8 و14 آذار منذ ما بعد الانتخابات النيابية صيف 2009 وتأليف حكومة الوحدة الوطنية. الواقع الذي افتقدتاه ما بين عامي 2005 و2008 عندما أدارتا الخلاف والانقسام اللبناني على معظم الملفات اللبنانية، كحكومة الرئيس فؤاد السنيورة والتحقيق الدولي ثم المحكمة الدولية وسلاح حزب الله. بذلك تشترك العاصمتان ـــــ وهما تديران الاستقرار اللبناني ـــــ في إرساء معادلة متوازنة تمثّل مصدر نفوذهما في لبنان: زعامة الحريري في الحكم والشارع السنّي، وحماية سلاح حزب الله. وهكذا تكونان قد عطلتا كل أسباب فتنة سنية ـــــ شيعية استمدت شرارتها أكثر من مرة ما بين عامي 2007 و2008 من الخلاف السعودي ـــــ السوري في الشارع اللبناني.
3ــ لأن المحكمة الدولية كانت في صلب نزاعهما ما بين عامي 2005 و2008، فإنهما يمثلان اليوم مفتاح الحؤول دون انهيار الاستقرار تحت وطأة عبء المحكمة التي كانت الرياض سبّاقة إلى تمويلها، بعدما اشتركت في توجيه شبهة اغتيال الرئيس السابق للحكومة إلى نظام الأسد. ويبدو عبد الله والأسد وحدهما القادرين على إيجاد التسوية الممكنة التي تحول دون اشتباك جديد سني ـــــ شيعي للمرة الثانية بعد 7 أيار 2008. كان ما حدث في ذلك اليوم جزءاً من النزاع السعودي ـــــ السوري على توازن القوى القائم في لبنان، وعلى تجريد سوريا من مصادر نفوذها عبر خوض معركة الطعن في شرعية سلاح حزب الله. وانتهى الأمر بتفاهمهما على اتفاق الدوحة الذي انتقل بسلاح حزب الله من التشكيك في شرعيته إلى وضعه على طاولة الحوار الوطني.
بيد أن الزيارة المشتركة للملك السعودي والرئيس السوري تتوخى أيضاً توجيه رسائل منها:
بعدما كانت المحكمة الدولية في صلب نزاعهما، بات عبد الله والأسد مفتاح منع الانهيار
ــ تأكيد الدور السوري المباشر في رعاية الاستقرار اللبناني الذي تمثل الرياض مظلته من خلال العلاقة الثنائية التي تجمعها بدمشق. لا تقاسم المملكة سوريا نفوذها المباشر في لبنان، بل تفوّض إليها إدارته من ضمن سلسلة تفاهمات مشتركة تشمل ـــــ إلى هذا البلد ـــــ ما يجري في العراق واليمن وفلسطين. في صلب هذه التفاهمات حماية زعامة الحريري ومساعدته على مواجهة التناقض الناشب بين خياراته الجديدة التي سلكها حيال سوريا، وبين المشاعر التي لا تزال تتحكم بشارعه السنّي منذ عام 2005. عند هذا التقاطع ـــــ وهو الإمساك بالشارع السني ـــــ يكمن سرّ رعاية الرياض ودمشق معاً دعم الحريري على تخطي العقبات والصعوبات.
ــ توازن سوريا بين حليفين لا تريد التفريط بالتوازن القائم بينهما في لبنان، وقد بات جزءاً لا يتجزأ من شبكة تحالفاتها الإقليمية المعقدة، وإن بدا أنها تضمر مفاضلة بينهما. تنظر إلى سلاح المقاومة على أنه يقيم في صلب نظام استقرارها ودورها في المنطقة في مواجهة إسرائيل، وتتقدّم في علاقتها برئيس الحكومة المتسمة بودّ وإيجابية كبيرين وظاهرين. الأمر الذي يجنبها الانحياز إلى أحدهما ضد الآخر في الجدل الدائر حول المحكمة، بعدما أبلغ الحريري إلى الأسد في اجتماعهما الأخير قبل أسبوعين، أنه لا يستهدف المقاومة، وهو حريص على حمايتها.
بذلك يُقرّ بمأزق المحكمة الدولية التي يتمسّك بها، ويعجز في الوقت نفسه عن إيجاد الحلّ الذي لا يكتفي بطمأنة حزب الله إلى قرار ظني لا يتهمه باغتيال الحريري الأب، بل يحول دون انتقال الشبهة من القرار الظني إلى الشارع السني.
على نحو كهذا، لا يسع الحريري التنصّل من المحكمة الدولية كرئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط الذي أوحى قبل ثلاثة أيام بعدم جدواها، ولا القول بأنها مسيّسة، ولا نقض قراراتها وأحكامها. ولا يسع حزب الله ـــــ وهو يرفض بلا تساهل القرار الظني ـــــ إلا تأييد محكمة دولية غير مسيّسة. في الحالين، أمست المحكمة عبئاً مزدوجاً على الرياض ودمشق يحتاج إلى حلّ بعيداً من خلافات اللبنانيين وتناحرهما.

عدد الخميس ٢٩ تموز ٢٠١٠
الاخبار

No comments:

Post a Comment