Saturday, August 21, 2010

الحريري بين الغفران والنسيان والأسطورة
جان عزيز
شهيرة تلك المعادلة ـــــ الدوّامة التي يطرحها الروائي فيرجيل جورجيو على أحد أبطاله: ترى، أيهما أفضل لتحقيق سكينتي: أن أغفر ولو لم أنسَ، أم أنسى ولو لم أغفر؟
شيء من هذا القبيل، دُفع إليه سعد الحريري منذ مدة، حيال اغتيال والده، وحقيقة الجريمة وكيفية تصرفه هو حيالها.
فمن جهة أولى، هناك وليد جنبلاط، بكل «وليديّته» و«جنبلاطيّته» وتقلّبهما.
فطيلة خمسة أعوام، قال البيك للشيخ الأمر ونقيضه، الشيء وعكسه، النصيحة وضدها. قبل أن يستقر منذ نحو عام، وتحديداً منذ ما بعد الانتخابات النيابية، على مقولة واحدة: انسَ... ولو لم تغفر. تارة يطلع له بمعادلة: الحقيقة، لا العقوبة، وطوراً يقدّم له نموذج والده بعدما جعله نماذج على عدد استعادته له وتقديمه. لكن في كل مقارباته للمسألة منذ خطاب 2 آب 2009 من البوريفاج، يبدو جنبلاط ناصحاً وليّ الدم بالنسيان الظاهر، وإن ظلت مسألة الغفران أو عدمه، من شؤون ما يستعان عليه بالكتمان.
والمعادلة الجنبلاطية تلك، تحاول تسويق نفسها على أنها مربحة دوماً، وفي شكل مستدام. يكاد يقول لوليّ الدم: ها أنذا قد مررت بالتجربة نفسها من قبلك. نسيتها في غضون أربعين يوماً، ما سمح لي بتطبيع الأمور مع دمشق. وتركت الباقي لباطني ما يسمح لي بإيقاظه حين يكون الإيقاظ مربحاً مفيداً ولو في شكل عابر. وكلمة حق تقال لمصلحة جنبلاط، إنه لم يكتشف تلك المعادلة متأخّراً. بل كان أوّل من جهر بها علناً قبل خمسة أعوام. لكن يومها كانت أذنا حلفائه مملوكتين، واحدة لرسائل فيلتمان النصّية القصيرة، وأخرى لهمس إيمييه الخارج من بين شفتيه المطبقتين.
في المقابل، يبدو الحريري عرضة لرياح تفكيرية أخرى، لا بل معاكسة، وهي رياح كأنها سعودية المصدر والاتجاه. وترجمتها العملية من نوع: اغفر ولو لم تنسَ. فالمغفرة مضافة الى الذاكرة، تسمحان بتوازن نفسي وسياسي أكثر ثباتاً، وبسكينة في العلاقة مع «الآخرين»، تفتح الباب فعلياً وجدياً لاستعادة علاقة الوالد الراحل، ونموذجه في السلطة والحكم، ومعادلته في أن يكون شكلاً أقل من رئيس حكومة لبلد واحد، وفعلاً رجل دولة مؤثر في أكثر من بلد. حتى إن البعض يعتقد أن هذا هو المشروع الأول والأصيل الذي أرادته الرياض للرجل. وهو المشروع الذي لا تزال المملكة تتمسك به، وتراهن على إحيائه، ولو بأثمان غالية أو رخيصة، في ذهنية عقل يعتقد أن لكل شيء ثمناً، وأن لا شيء يستحق أن يكون بأي ثمن...
وبين الاتجاهين المتقابلين، تهبّ على الحريري من داخل الداخل، ومن خارج الخارج، أفكار أخرى تحاول الاستخلاص والإجمال: لا ضرورة للنسيان، ولا للغفران. كل المطلوب كسب الوقت. ففي الأجل المتوسط أو الأكثر بعداً، كل التقديرات والتوقعات والانتظارات إيجابية. ففي النهاية، هي الولايات المتحدة تتمخض عن بحث داخلي فكري وسياسي، لكيفية مقاربتها العالم الإسلامي. وفي محصلة تلك المقاربة ـــــ مهما كانت نتائجها ـــــ ثمة موقع محفوظ للمسلم السنّي الرأسمالي الغربي النمط المعتدل والقادر على اجتراح «معجزة» المسيحي زمن القرن الماضي... أو كذبته. وفي النهاية، هي إسرائيل مدركة أن وجودها في المنطقة رهن بقدرتها على الوصول الى تسوية عادلة وشاملة مع داخلها والمحيط، فيما تسوية كهذه لا تتم إلا مع «أكثرية» ذاك الداخل، ومع أكثرية هذا المحيط، لا مع «الأقليات».
وفي النهاية، ها هو «حزب الله» قد ولج أزمته مع نفسه، بين انعدام «مشروعية» المقاومة الحقيقية، بعد «فك الاشتباك» الأممي المترسّخ يوماً بعد يوم، وبين استحالة ديمومة نموذج «الضاحية ـــــ الأمة»، ولو سعى إلى تأخير تلك الاستحالة، بل اجتهادات المواءمة بين «الإيمان» و«النظام»...
وسط تلك النظريات الحريرية المكتومة والكامنة ـــــ على صحة وجودها ومعرفة الجميع بذلك ـــــ يفتح حسن نصر الله وميشال عون على العقل الحريري نوافذ جديدة: ماذا لو كانت إسرائيل هي من اغتال الحريري؟ وماذا لو كان «التفاهم» الكياني الشامل بين كل مكوّنات الوطن، سبيلاً أوحد للخلاص من سياسات الرهان والانتظار؟
ألا تستحق المعادلة الأخرى المحاولة؟ ألا تستبطن في حال صحتها، أرضية أكثر صلابة، لسكينة فردية ووطنية أكثر ثباتاً واستدامة؟
كثير من ظواهر التاريخ البشري ـــــ حتى المعاصر منها ـــــ قام على نظرية «الأسطورة المؤسسة». غير أن التاريخ نفسه يثبت أنها ظلت كلها مصنفة ضمن باب الأساطير...

عدد السبت ٢١ آب ٢٠١٠
الاخبار

No comments:

Post a Comment