Sunday, July 17, 2011

> كلام علنيّ للعشاء السرّي هذا المساء

كلام علنيّ للعشاء السرّي هذا المساء
جان عزيز

لو أن بين مدعوّي الرئيس إلى مائدته، هذا المساء، مجنوناً على الطريقة الجبرانية ليحدّث الحاضرين. بعد أن تدور خمرة المناسبة في الكؤوس، وتزول تشنجات الإدراك
لدى كل جليس لمن يجلس بجانبه، وفي لحظة صمت من تلك التي تنطوي على تسلل طيف، يبدأ هو كلامه:
مضى علينا 1600 عام على هذه البقعة وبهذه الصفة: الموارنة. علماً بأنها تبلورت تاريخياً عبر ثلاث مراحل: أولاً زمن الدعوة النسكية والرسالة الإيمانية، بين الراهب
مارون والأسقف تيودوريطوس القورشي، بين أواخر القرن الرابع ومنتضف الخامس، زمن تقشّف العراء وهيكل الإيمان الخلقيدوني في «بيت مارون». في مرحلة ثانية، تدرجنا
من «الجماعة» إلى الكنسية مع يوحنا مارون، أواخر القرن السابع وبداية الثامن، قبل أن نخوض المرحلة الثالثة من «مشروعنا»، بالانتقال إلى المجتمع ومن ثم «الكيان»
والدولة، على مدى نحو ثلاثة قرون، بين نزوح يوحنا مخلوف من نواحي قنوبين إلى مجدل المعوش وبداية تأسيس الإمارة، وهجرة الياس الحويك الدمشقي الى «لبنان»، ليصير
به وبسببه، وليس من أجله، «كبيراً».
وفي كل تلك المراحل، كنا مدفوعين بنوازع ثلاثة، جمعتنا في تكاملها الفكري والنضالي.
كان بيننا أولاً جماعة الإيمانيين اللاهوتيين التبشيريين. أولئك الذين قدّوا فكرهم من مقولة «البيبل» عن «نور الشرق»، وكيف أن هذا النور هو من علامات الأزمنة،
ومن ضرورات المجيء الثاني. آمنوا بأن النور الذي ورد في النص إنما هو مسيحيّو الشرق. فلن يأتي المسيح ثانية إن لم يكونوا هم في مهده. بعدهم بقرون طويلة توسّعت
عقيدة هؤلاء، وصار لها منظّرون في اللاهوت السياسي، في مقولة «المسيحية سماء وأرض»، من الأكويني حتى لوفيفر... كان الهدف النهائي لهذه النزعة النضالية الدفاع
عن «لبنان» ما، كآخر بقعة للبشارة المسيحية، وللدولة المسيحية ببعدها اللاهوتي، في انتظار تمام «التدبير الخلاصي».
وكان بيننا أصحاب النزعة النضالية الثانية: «المسيحيون التاريخيون». هؤلاء نظروا إلى قضية وجودنا على هذه الأرض على أنها المعقل الأخير لنظرية الأقليات في المنطقة،
والقلعة الأخيرة للمسألة الشرقية. فكّروا وكتبوا وقالوا إنه منذ حدث «الفتح» تغيّر التاريخ عندنا، وصارت «الحرية» في أزمة. وانطلق الصراع بين «حلم الغزو الذي
لم يكتمل» من جهة، وأسطورة «المردة الأحرار» من جهة أخرى. عاش أصحاب هذه النظرية على كتابات مؤرّخي القومية اللبنانية، من جواد بولس حتى الصليبي في «تاريخ لبنان
الحديث»، قبل أن «يهتدي» إلى «بيت بمنازل كثيرة». وكان هدف هذه المقولة الذود عن لبنانٍ ما أيضاً، «ملاذاً للحرية» وملجأً للمضطهدين وموئلاً لرافضي نظام «الجزية»
والذمية... إلى آخر التسويغ الإيديولوجي.
وكان بيننا أخيراً جماعة فكرية نضالية ثالثة، «المسيحيون السوسيولوجيون». أولئك الذين لم يقبضوا قصة «المجيء الثاني»، ولم يعتقدوا بأبدية صراع الفتوحات. لكنهم
آمنوا بأن الفكرة الدينية تصقل شخصية الفرد، كما الجماعة، وأن النظرة الى الحياة الأخرى هي أكثر ما يحدد كيفية الحياة الراهنة. فالدين بالنسبة إلى هؤلاء، في
تجلياته الفردية والجماعية، يصير المصدر الأول للثقافة والشخصية القاعدية والمتخيل التاريخي والذاكرة والوجدان الجمعيين. والدين بالنسبة الى هؤلاء سابق لمؤسسات
«الفعل المجتمعي»، ومكوّن ثابت في العقل البشري. تماماً على طريقة ميرسيا إلياد وفيبر، وصولاً إلى هانتنغتون. هكذا ذهب «المسيحيون السوسيولوجيون» إلى مقولة
الدفاع عن لبنان التعددي، ولو بلا إيمان ديني، ولو كان الحدث التاريخي المؤسس قد أضحى من التاريخ البائد...
وحين يهزّ الحاضرون إلى عشاء الرئيس رؤوسهم موافقين، يفاجئهم المتكلم بالخلاصة: كل هذا قد أصبح اليوم كذبة. من منكم أو منّا تنطبق عليه صفة المسيحيين اللاهوتيين؟
من منكم يقرأ دونوزو كورتيز أو بيوس الثاني عشر؟ أو من منّا يعيش حياته على وقع «الإيمان المتموضع» الذي تحدث عنه المجمع؟
أما التاريخ، فقد انتهى فعلاً بهذا المعنى. لم يعد هناك دولة إسلامية حولنا. هناك سنّة وشيعة ودروز وعلويون. وهناك أصوليون وجهاديون ومتنوّرون وحداثيون. وهناك
كل الدول الساقطة والقائمة، وهناك خصوصاً إسرائيل. كل خارطة الصراع في المنطقة قد تغيّرت.
تبقى التعددية؟ لقد ألغتها البراكسيس المجتمعية اللبنانية منذ زمن. آسف لإبلاغكم أن تفوّقكم العددي قد انتهى منذ سبعين عاماً. أما كذبة تفوّقكم النوعي، فتلك
وهم وكارثة عنصرية سكنت عقول البعض منا، حتى جعلتنا متخلفين، لا ينمو على حفافينا إلا التفاهة والسخافة والحقد الإلغائي بعضنا ضد بعض.
ووسط صدمة الوجوه المدركة لصحة ما تسمع، يختم المتكلم: تعالوا الليلة نعلن دفن المارونية السياسية، والطائفية السياسية، ونظام الطائفية، ونعلن الدولة المدنية
الكاملة، على قاعدة «الحقوق المسلمات» للشخص البشري، قبل فوات الأوان.

مقالالاخبار

No comments:

Post a Comment