Thursday, August 4, 2011

الاستراتيجيّة الكبرى للبنان(1)
الياس حنا
ان جُلّ ما يمكن قوله عن لبنان، هو انه لا يملك ايّة ثقافة إستراتيجية. فالثقافة الاستراتيجيّة هي ثقافة تتكون من تراكمات تاريخيّة تتألّف مكوّناتها من العوامل
التالية: التاريخ، الجغرافيا، التقاليد، الدين، كيفيّة التعامل مع المخاطر، كيفيّة وعي الذات والآخر....الخ. وقد يمكن القول، ان لكلّ حضارة ثقافة استراتيجيّة
خاصة بها. فعلى سبيل المثال، تعتبر اميركا دولة بحريّة، فقط لانها على حدود محيطين (الأطلسي والهادئ). من هنا سيطرتها على البحار، ومن هنا رؤيتها الاستراتيجيّة
الكبرى بالاتجاه الآسيوي كما الاوروبيّ.
ايضا، لدى اسرائيل ثقافة استراتيجيّة خاصة بها تقوم على التجربة التاريخيّة الخاصة بالشعب اليهوديّ، ان كانت التجربة في القِدَم ام في العصر الحديث، مع نبوخذ
نصّر او مع الرومان، او حتى مع الاغريق.
ومع الاغتصاب الاكبر للارض في تاريخ المنطقة، وبعد إعلان الكيان الصهيونيّ، بدأت تتكوّن ثقافة استراتيجيّة تراكميّة ترتكز على الجغرافيا، الطوبوغرافيا وحتى
مع الديموغرافيا.
مثّل فكر ديفيد بن غوريون المُرتكز الاهمّ لهذه الثقافة الإستراتيجية، والذي قام على المبادئ التاليّة:
÷ خوض الحرب على ارض العدو - بسبب عامل العمق الاستراتيجيّ، طولا وعرضا
÷ يجب ان تكون الحرب خاطفة وسريعة – لان الجيش الإسرائيلي يقوم على الاحتياط بنسبة 80%، فلا يمكن شلّ البلاد لفترة طويلة.
÷ لا لحروب الاستنزاف – بسبب أهمية العنصر البشريّ.
÷ ضرب العدو بطريقة تجعله غير قادر على المدى القريب على استعادة توازنه استعدادا لحرب مقبلة.
÷ نتج عن هذه المبادئ مبادئ فرعيّة، كالحفاظ على التفوّق النوعي في الاسلحة، كما احتكار ملكيّة أسلحة الدمار الشامل خاصة النوويّ منها، كما تأمين راع دولي مهمّ
– اختار بن غوريون الولايات المتحدة الأميركية بدل بريطانيا لانه شعر ان هذه الأخيرة سائرة الى الهبوط عن عرش القوى العظمى.
لكن عدم توفّر ثقافة استراتيجيّة في لبنان، يعني حتما ان له ما يُسمّى بالثقافة الاستراتيجيّة السلبيّة، التي تقوم على ردّ الفعل وليس الفعل. تقوم على قدريّة
معيّنة، اي القبول بالقدر الجغرافيّ لبلد الارز على انه دائما محور التلاقيّ والصراع بين الغرب والشرق، قبل المسيح وبعده، قبل خسارة فلسطين وبعدها وحتى الآن.
انه تلك المنطقة التي يُطلق عليها في علم الجيوبوليتيك «المنطقة العازلة»، ( Buffer State). فهي منطقة تُخلق اذا لم تكن موجودة، فعلى سبيل المثال، خٌلقت كل
من الاورغواي والباراغواي كدول عازلة لفصل الارجنتين عن البرازيل. كما خلقت افغانستان بحدودها الحاليّة خلال اللعبة الكبرى في وسط آسيا لفصل مصالح بريطانيا
في الهند عن مصالح روسيا القيصريّة.
ماذا عن الاستراتيجيّة الكبرى؟
في التعريف العام للاستراتيجيّة، هي تلك الفكرة - الرؤية التي تربط الاهداف بالوسائل بهدف تحقيق الاهداف السياسية. إذاً الاستراتيجية هي في خدمة السياسة لا
العكس.
اما المفكّر الانكليزي والمؤرّخ بول كيندي، فهو يُعرّف الاستراتيجيّة الكبرى على انها:
«قدرة قيادات امّة ما، على جمع كلّ عناصر القوّة، العسكريّة منها وغير العسكريّة، بهدف الحفاظ، تدعيم وتحقيق الاهداف - المصالح البعيدة المدى، إن كان في فترة
السلم ام الحرب».
إذاً، هل هناك استراتيجيّة صغرى، وأخرى كبرى؟
ممكن، إذ لكلّ مستوى من مستويات الدولة في كل ابعاد عناصر القوّة لديها، هناك استراتيجيّة. للعسكر استراتيجيّة، للاقتصادييّن استراتيجيّة، للسياسة الخارجيّة
استراتيجيّة، لكن شرط ان تتلاقى كلّها في بوتقة واحدة تحت قبّعة الاستراتيجيّة الكبرى، وهذا عمل يعتبر مُضنيا، طويل الامد، وهو مسار وليس قرارا. فعلى سبيل المثال،
لتحقيق الاهداف القوميّة استراتيجيّة معيّنة. وهي، اي الاهداف، التي قد تذهب الامم من اجلها الى الحرب، وقد لا تذهب بسبب النقص في القدرات القوميّة. اما المصالح
الحيويّة والتي تهدّد الكيان، فهي المصالح التي تقاتل الامم وتموت من اجلها. فعلى سبيل المثال، قبلت باكستان مساعدة اميركا بعد 11 ايلول لضرب نظام طالبان، مع
انه يعتبر من المصالح القوميّة لباكستان – كعمق استراتيجيّ ضد الهند. لكن بعد ان انتقلت اميركا الى ضرب الطالبان – الباشتون داخل باكستان، انتفضت باكستان لأن
هذا يمسّ الاهداف الحيويّة – وحدة باكستان.
إذاً، هل تتكامل الاستراتيجيّات الصغرى، وتتقاطع في مكان ما كي تتحقّق اهداف الاستراتيجيّة الكبرى السياسيّة؟ بالطبع، من هنا صعوبة العمل في هذا المجال.
لكن الاستراتيجيّة عامة، تتأثّر بالظرف القائم، من النظام الدوليّ، الى الاقليميّ وحتى الى النظام الاقتصاديّ العالميّ، ضمنا مدى درجة التقدّم التكنولوجيّ –Contextual.
فعلى سبيل المثال، وحسب المفكّر الاميركيّ ولتر راسيل ميد –Walter Russell Mead- قامت اولويات الولايات المتحدة في استراتيجيّتها الكبرى خلال الحرب الباردة
على الترتيب التالي:
÷ في المرتبة الاولى اوروبا الغربيّة كمسرح اساسيّ ضد السوفيات
÷ في المرتبة الثانية تأتي شرقيّ آسيا
÷ اما في المرتبة الاخيرة، فيأتي الشرق الاوسط – حتى مع النفط، والذي كان مضمونا تقريبا
بعد 11 ايلول، انتقلت اوروبا من المرتبة الاولى الى الثالثة، ليحل مكانها الشرق الاوسط، لتحافظ شرق آسيا على ترتيبها الثاني. من هنا ضرورة فهم ما يجري في منطقتنا
من ثورات وهميّة وانقلابات وتحوّلات جذريّة. فلقد اصبح الشرق الاوسط منطقة العصر، والممر، للجبار الى آسيا خلال انتقاله من اوروبا –Shatter Belt. وهذا امر يذكّرنا
بما قاله مكيافيللي في صعوبة الانتقال من نظام الى آخر، وصعوبة التأقلم خاصة للقوى الصغرى. فها نحن في العالم العربي، وخاصة في لبنان ندفع الفواتير الدمويّة
واحدة تلو الاخرى، في ظلّ عدم توفّر بصيص امل في الافق.
على كلّ على الاستراتيجيّة الناجحة ان ترتكز على العوامل التالية:
÷ يجب ان تكون مقبولة.
÷ مناسبة.
÷ ممكنة – اي توازن الاهداف مع الوسائل كما نظّر المفكّر البروسي الكبير كارل فون كلوزفيتز. هذا عدا صفة الليونة والقدرة على التأقلم.
يقول البعض الآخر، ان على الاستراتيجيّة ان ترتكز على:
÷ ما تريده السياسة.
÷ ما تسمح به التكنولوجيا.
÷ وما يقبله الرأي العام.
ما هي التحّديات امام الفكر الاستراتيجيّ – الاستراتيجيّات؟
لان شروط نجاح الاستراتيجيّة كثيرة ومتعدّدة. ولانها كما قلنا تتعلّق مباشرة بالظروف التي تُنتج فيها. إذا هي اليوم تتعلّق مباشرة بظاهرة العولمة ونتائجها –Globalization.
كما تتعلّق بتراجع دور الامّة – الدولة –Nation State، وحتى دور وتأثير المنظمات الدوليّة، والمنظمات غير الحكوميّة، الخيريّة منها كما الارهابيّة – تنظيم القاعدة
مثلا.
فعالم اليوم هو عالم مجتمع المخاطرة كما يقول عنه المفّكر الالمانيّ اولريتش بيك –Risk Society. وهو عالم اصبحت فيه القوّة –Power- موزّعة على الكثير من اللاعبين
كما يقول المفكّر الاميركيّ جوزف ناي، وليست محصورة فقط في يد القوى العظمى والكبرى. فلنتأمّل مثلا تأثير تنظيم القاعدة بعد كارثة 11 ايلول 2001.
في عالم كهذا، اصبحت الامة – الدولة لاعبا مثلها مثل باقي اللاعبين. فالمجتمع بحاجة اليها فقط لحلّ الازمة الاقتصاديّة، اما الباقي فهو متروك للمجتمع المدني
حيث رجال الاعمال وحتى رجال العصابات كما يحدث اليوم في المكسيك. كذلك الامر، يتبوّأ الصدارة اليوم ما يُسمّى بتيّار القانون الدولي وتعميمه حتى ضمن سيادة الدول.
فالسيادة اصبحت مشروطة اليوم، ومتعلّقة بمدى احترام الامة – الدولة لبعض المعايير الدوليّة، حتى ولو كانت ملتوية في بعض الاحيان هذه المعايير – المحاكم الدوليّة،
كما الاتفاقات الدوليّة ICC.
يُضاف الى هذه الظروف، موضوع تعميم المعرفة وسهولة الحصول عليها عبر الانترنت مثلا –Diffusion of Knowledge– فقد يمكن التوصل الى كيفيّة تصميم قنبلة نوويّة،
كما تصميم قنبلة كبيرة من مواد تجاريّة تباع في السوق. وهذا بالفعل ما حصل في تفجير اوكلاهوما العام 1994، وما حصل في النروج مؤخرا. إذاً، قد يمكن اليوم لشخص
منفرد، التأثير في سياسة الامة - الدولة وحتى التأثير في النظام العالميّ. افلا يؤّثر ما قام به مُرتكب مجزرة اوسلو بسياسة الدول الاوروبيّة في ما خصّ الهجرة
الاسلاميّة؟ افلا يؤثّر ايضا مستقبلا في دور الاحزاب اليمينيّة المتشدّدة في اوروبا تجاه محيطها المتوسّطي. بالطبع، ومن هنا صعوبة العمل الاستراتيجيّ في هذه
الظروف.
ما العمل في هذه الظروف غير الملائمة لصناعة الاستراتيجيّات؟
بكلام بسيط، وجوب التخطيط الاستراتيجيّ عبر التركيز على الثوابت – المُسلّمات كمُعطى اساسيّ، وترك فسحة - قدرة كبيرة من الليونة، Flexibility، للتاقلم مع كل
المتغيّرات الطارئة – وهي سريعة وكثيرة. في هذا التخطيط الاستراتيجيّ، تؤخذ المصالح الحيويّة اوّلا – يوضع ترتيب لها واولويّات، وتُخصّص بوسائل ملائمة لها.
اما الباقي، فوجب خلق آليّة تأقلم له، تقوم على القوّة الذكيّة حسب تعبير جوزف ناي في كتابه الاخير «مستقبل القوّة» The Future of Power. تتألّف هذه القوة الذكيّة
من القوة الصلبة التي تتزاوج مع القوّة الصلبة، Hard Power and Soft Power، وهنا يأتي دور الاسترتيجيّة الدفاعيّة اللبنانيّة.
(غدا الجزء الثاني والأخير)
([) أستاذ جامعي، باحث وكاتب استراتيجي

No comments:

Post a Comment