Wednesday, August 3, 2011

بين الاستراتيجيّة الكبرى والاستراتيجية الدفاعية (2)
الياس حنا
إذا احتوت الاستراتيجيّة الكبرى المُتخيّلة المصالح القوميّة للبنان، يبقى عليها ان ترتكز على المصالح الحيويّة. وهذه المصالح الحيويّة، تكون فقط، فقط في البُعد
والمستوى السياسيّ فقط. وهذا امر لا يتوفّر اليوم في لبنان. فعلى سبيل المثال، وإذا ذهبنا الى المستوى الجيو ـ سياسيّ، Geopolitical، إن إحدى اهم المُسلّمات
الجيو ـ سياسيّة والحيويّة للبنان كي يستمرّ، تقوم على عدم جعله مسرح صراع الآخرين ـBuffer State. وهذا امر يؤخذ على المستوى السياسيّ ومن كلّ الافرقاء، ضمنا
الاقليّات. وللاسف هذا امر غير متوفّر حاليّا. من هنا صعوبة وضع الاستراتيجيّة الكبرى للبنان ـ تُؤخذ على المستوى السياسي. وبالتالي عدم القدرة على وضع الاستراتيجيّة
الدفاعيّة للبنان، والتي توضع حتما على المستوى العسكريّ لكن تحت الاشراف السياسيّ.
إذاً بين الاستراتيجيّة الكبرى، والاستراتيجيّة الدفاعيّة لغط ومغالطات كبيرة بين الافرقاء السياسيّين في لبنان ضمنا حزب الله. فعلى طاولة الحوار، لا تناقش
الاستراتيجيّة الدفاعيّة، بل تُناقش الاستراتيجيّة الكبرى، لان هذه الاخيرة هي اكبر من الاستراتيجيّة الدفاعيّة والتي هي بحت عسكريّة ـ وهذا خطأ شائع اليوم
بين جهابذة السياسة اليوم في لبنان.
وإذا انتجت طاولة الحوار استراتيجيّة كبرى، يصبح موضوع رسم الاستراتيجيّة الدفاعيّة من عمل المقاومة + الجيش + الشعب حيث دور المجتمع المدنيّ ـ حتى ولو عتب
عليّ ولامني قائد الجيش لاقحام المؤسسة في هذا الدور كما نُمي اليّ مرّة.
ماذا لدينا اليوم من الثقافة الاستراتيجيّة، وماذا لدينا اليوم من طروحات في الاستراتيجيّة الدفاعيّة؟
عرف لبنان عدّة عناوين حول كيفيّة الدفاع عنه، منها ان «قوّة لبنان في ضعفه». وبالرغم من انتقاد البعض له، قد يمكن القول، ولان الاستراتيجيّة هي ظرفيّة، ان
هذا الشعار كان مفيدا في وقته وقد خدم لبنان بطريقة ما. لكن الشعار كان شعارا لمن لا يريد العمل على استراتيجيّة، او لان تركيبة البلد آنذاك كانت تتطلّب نوعا
كهذا من الشعارات التي بقيت دون تجسيد على ارض الواقع. فلا يكفي مثلا ان يُطلق الشعار فقط هكذا في الهواء ودون مضمون. إذاً على الدولة ان تحضّر له، تؤمّن له
اسس النجاح. افلا يُقال «ان قرار الحرب هو في يد القويّ، ام قرار السلم هو في يد الضعيف»؟ ومن اسسه على الاقلّ، خلق منظومة تقوم فعلا على القوّة الذكيّة، والتي
تجمع بين القوة الصلبة والقوّة الطريّة، اي قوّة عسكريّة قادرة وكافية للصمود لفترة محدّدة، وبشكل تُظهر ان لبنان هو المُعتدى عليه، مع قوّة دبلوماسيّة طريّة
ترتكز على الدعم السياسي العربيّ كما الدوليّ، بالاضافة الى القرارات الدوليّة. لكن لا يمكن للبنان عندها في ذلك الوقت ان يُطلق شعار قوّة لبنان في ضعفه، ومن
دون منظومة لادارة عمليّة الحرب والسلم، وفي الوقت نفسه يُوقّع نوابه ورئيسه على اتّفاق سريّ يعطي منظمة التحرير الفلسطينيّة حق قتال اسرائيل من ارض لبنان،
عنيت اتفاق القاهرة 1969، الامر الذي يُلغي من المنظومة فورا البُعد الطريّ الدبلوماسي ـ هذا استنادا لشرعة الامم المتحدة والقانون الدوليّ. ومن يدري، قد يصلحّ
هذا الشعار اليوم بعد فترة تأمّل معيّنة، خاصة ان البُعد الصلب من المعادلة اصبح اليوم جاهزا ومُجرّبا ـ عنيت المقاومة؟ فما يعني قول الأمين العام لحزب الله
انه لا يريد الحرب مع اسرائيل، لكن العدوان على لبنان سوف تكون كلفته عالية جدّا؟ الم يعترف السيّد بأن العالم كلّه يدعم اسرائيل، ضمنا بعض العرب ضدّ لبنان؟
وبالرغم من ذلك حقّقت المقاومة انتصارا في تمّوز 2006؟ إذا ما الذي تغيّر في شعار قوّة لبنان في ضعفه سوى جهوزيّة المقاومة، ايّ القوّة الصلبة؟ في الحدّ الادنى
قد يمكن تغيير الشعار، لان المضمون تبدل جذريا.
أما الاوراق التي قدّمت على طاولات الحوار، والتي وإن دُرست بعناية، قد تقنعنا اكثر بأنه ليس للبنان هذه الثقافة الاستراتيجيّة، خاصة ان الثقافة السياسيّة للافرقاء
في الحوار هي ايضا ليست من نفس المنبع والمصدر، ولا تنظر الى عمليّتي السلم والحرب بالمنظار نفسه.
منهم من اراد تحييد لبنان على غرار سويسرا وبلجيكا. وهذا امر يتطلّب منظومة مختلفة، في حدّها الادنى تقوم على بُعدين اساسيّين هما: ضمانة دوليّة من القوى الكبرى،
كما حصل مع بلجيكا في القرن التاسع عشر. كذلك الامر موافقة داخليّة. الامران غير متوفّرين.
قد يُحيّد لبنان نفسه عن محيطه ايضا بقرار داخليّ بحت. لكن هذا الامر يتطلّب: توافقا سياسيّا داخليّا كاملا على الحياد، كذلك الامر خلق وبناء قوّة ردعيّة داخليّة
تُخرج لبنان من دور الدولة العازلة (Buffer State). للبنان اليوم قوّة ردع، لكن لا قرار سياسيّا داخليّا موحّدا.
ما هو المتوفّر اليوم من الطروحات الاستراتيجيّة؟
في اوّل طاولة حوار عقدت مع الرئيس بريّ حضرها الأمين العام لحزب الله، فنّد السيّد الثقافة الاستراتيجيّة ـ التجربة الاسرائيليّة تجاه لبنان. فحدّد السيناريوهات
الممكنة، وما يمكن لاسرائيل ان تقوم به على الشكل التالي:
÷ عمليات قصف مكثّفة دون اجتياح ـ 1993ـ 1996
÷ عمليّات قصف مع اجتياح محدود ـ عمليّة الليطانيّ 1978
÷ عمليات قصف مع اجتياح كامل ـ كما حصل في العام 1982
وعليه على لبنان ان يتحضّر. اتت حرب تمّوز 2006 من ضمن مزيج مما طرحه السيّد. قصفت اسرائيل آملة الحسم عبر سلاح الجوّ. وعندما عجزت قرّرت العمليّات البريّة،
لكنها لم تكن جاهزة لان المفاجأة الاستراتيجيّة الكبرى كانت في البُعد التكتيّ، في مارون الراس، في بنت جبيل وغيرها، خاصة منظومة صواريخ الحزب. لم تكن اسرائيل
جاهزة على المستوى التكتي، فتراكمت خسائرها في هذا البُعد لتُنتج الخسارة الاستراتيجيّة الكبرى لها، تمثّل في عدم قدرتها على الحسم. لذلك «ربح حزب الله لانه
لم يخسر، وخسرت اسرائيل لانها لم تربح».
ولمن يُتابع خطب السيّد خاصة حول سلاح المقاومة، قد يمكنه الاستنتاج ان الخطاب تدرّج تصاعديّا من طلب السيّد في إحدى خطبه، ان تُكتب كلمة «ان المقاومة شرعيّة»
في البيان الوزاريّ. حتى وصل الامر الى القبول بالثالوث «الشعب + الجيش + المقاومة» في البيان الوزاري بحيث الامر اصبح مُسلّما به ودون جدل يُذكر.
في خطابه الاخير، قد يمكن القول ان السيّد ارسى مكوّنات الاستراتيجيّة الكبرى للبنان، حتى ولو اتت من ضمن الحديث على الثروات النفطيّة والغاز. فما هي؟
÷ ثبات معادلة الشعب والجيش والمقاومة
÷ جهوزيّة المقاومة لتنفيذ ما تحدّده الدولة حول ارض محتلّة، او حول اعتداء ما.
بكلام آخر، يمكن تكليف المقاومة بأيّة مهمّة عسكريّة اذا ما ارادت الدولة ذلك. لكن الحديث عن الدولة يعني كلّ الدولة، بكل اطيافها وشعبها وارضها وهذا فعلا يعيدنا
الى ثلاثيّة الشعب والجيش والمقاومة، وقد يمكن اضافة الارض والبحر والجوّ. لكن هذا الامر يطرح اسئلة كثيرة وشائكة منها:
÷ من يُكلّف من، وما هي آليّة التكليف؟
÷ هل الحكومة تُكلّف وتعلن الحرب؟ وماذا لو كانت لا تمثّل كلّ الاطياف السياسيّة؟ الا تُشكّل الدول عن الازمات المصيريّة حكومات وحدة وطنيّة كي يكون قرار الحرب
والسلم جَماعيّا؟
÷ إذا قبل اللبنانيّون بثلاثيّة الشعب + الجيش + المقاومة، فأين دور الجيش وهو لا يحضر طاولة الحوار، وإذا حضر عبر وزير الدفاع فهو لا يُقدّم ورقة. وإذا كلّف
بإعداد ورقة، فمن سيقوم بإعدادها في المؤسسة العسكريّة في ظلّ موضوع مُسيّس حتى العظم، وتنوّع مذهبيّ في المؤسسة العسكريّة على غرار المجتمع اللبنانيّ؟ وهل
اصبح الجيش للامن الداخليّ، واوّل من يصطدم بالهجوم الاسرائيليّ في حال حصوله؟ فهل نعي ما يمكن للجيش ان يتكبّده في حال المواجهة المباشرة التقليديّة مع اقوى
جيش عصريّ في المنطقة؟ وفي هذا الاطار، الا يجب على قيادة الجيش تغيير العقيدة العسكريّة والتي تقوم على التدريب، التنظيم والتسليح؟ الم تنتصر المقاومة لانها
واجهت الجيش الاسرائيليّ بطريقة غير تقليديّة ـ لا تماثليّة؟
÷ كذلك الامر، اين دور الشعب كلّ الشعب، خاصة المجتمع المدني؟ الم نقل آنفا ان الاستراتيجيّة الكبرى تتطلّب كلّ مقدرات وعناصر قوّة الدولة؟
÷ من، وكيف، ومتى ستُحضّر آليّات التعامل والتعايش بين المقاومة والشعب والجيش؟ Modus Vivendi & Modus Operandi
÷ إذا قبل كلّ اللبنانيين بالثلاثيّة، فمن يُعلن الامر، ومن يتولّى البُعد الطريّ الدبلوماسيّ للاستراتيجيّة الكبرى؟
÷ من يحدّد المخاطر، خاصة انها قد تأتي من العدو ومن الصديق في بعض الاحيان؟ فهل يمكن تكليف المقاومة بقتال الصديق في يوم ما؟
÷ وإذا كانت الثلاثيّة قائمة ـ وانا معها لكن بشروط ـ فهل افضل للمقاومة ان تسوّقها هي في ظلّ الحملة الكبيرة عليها، بدل تركها للدولة؟ وهل يفيد لبنان عسكرة
سياسته الخارجيّة؟ اليس افضل للمقاومة ان تكون في الظلّ، والسرّ، خاصة ان احد اهمّ اسباب نجاحها منذ تأسيسها تمثّل في عملها السريّ؟
÷ وإذا اعتبرنا ان لكلّ استراتيجيّة ظروفها، خاصة التكنولوجيّة. وإذا اعتبرنا ان مركز ثقل المقاومة هو في شبكة الصواريخ المتعدّدة المدى. فماذ العمل في حال
تغيّرت الظروف؟ وماذا لو استطاع العدوّ ايجاد حلّ لهذه المنظومة ـ تكنولوجيّا؟ فكيف تُعدّل الاستراتيجيّة الدفاعيّة؟ من يُعدّلها؟ من يدفع الثمن؟ وكيف تتمّ
عمليّة التأقلم ضمن مثلّث الجيش والشعب والمقاومة؟
÷ ما هو دور الجيش في المُثلّث، خاصة ان قانون الدفاع يعطيه الدور الاهمّ، لا بل حتى احتكار امتلاك السلاح، وحصريّة استعمال العنف ـ حسب ماكس ويبر؟ فلماذا لا
تعدّل القوانين؟
÷ كيف يُدافع لبنان عن نفسه في حال وقعت الحرب اليوم؟ فهل هناك خطّة حرب تُشرك الشعب والجيش والمقاومة؟ كيف سيتصرّف الجيش، خاصة انه هدف اساسيّ في الحرب المقبلة؟
وماذا عن القيادة والسيطرة فيه؟ ماذا عن رئاستي الحكومة والجمهوريّة؟
÷ إذا كانت الاستراتيجيّة الكبرى معقدّة، وهي كذلك. وإذا كانت الاستراتيجيّة الدفاعيّة ايضا بدورها مُعقّدة. فمن هم اصحاب الخبرة اليوم، الميدانيّة، والاكاديميّة
والتاريخيّة، والعاملون الآن على رسم كلّ هذه الاستراتيجيّات؟ افلا يستدعي الامر تغيير شروط التوصيف الوظيفيّ للوزارت الامنيّة – ليس بالضرورة ان يكون عسكريّا
سابقا؟ خاصة ان التعيين اليوم لهذه الوزارات يقوم على الانتماء السياسيّ فقط، وعلى من هو ابرع في الخطب الرنّانة. فهل يجب ان تترك حرفة الحرب للعسكر؟ ام نتذكّر
ما قاله جورج كليمنصو حول هذا الامر: «الحرب مسألة حسّاسة جدّا كيّ تُترك للعسكريّيين»؟
في الختام ليس المطلوب من المسؤولين السياسيّن والعسكريّين في لبنان صنع المعجزات. فعليهم التصرّف والتخطيط بما لديهم من وسائل. الم يصدّ حزب الله بصواريخ الكاتيوشا،
والتي تعود الى الحرب العالميّة الثانيّة، اقوى جيش في المنطقة؟ المهمّ هو في الطريقة، التخطيط وكيفيّة الاستغلال الاقصى للوسائل المتوفّرة. الم يقل الفيلسوف
الفرنسيّ ريجيس دوبرييه، ان الافكار تُسيّر العالم؟ فهاتوا لنا عُصارة افكاركم ايها السياسيّون ـ ايضا العسكريّون.

([) استاذ جامعيّ، باحث وكاتب استراتيجيّ.

No comments:

Post a Comment