Saturday, September 10, 2011

نيويورك تخطّ صورتها الجديدة وتعيد صوغ "الحلم الأميركي" بعد 11 أيلول
"الإسلاموفوبيا" و"العربوفوبيا" تحييان الدفاع عن الحريات والحقوق المدنية

arab/P09-01-N245043

arab/p08-01-24503

منظر عام لموقع البناء في "غراوند زيرو" حيث كان برجا مركز التجارة العالمي.
جانب من النصب التذكاري لبركة المياه المحفور عليها اسماء ضحايا هجمات 11 ايلول.
لم يكن 11 أيلول 2001 يوماً مشؤوماً للولايات المتحدة فحسب. لا يزال العالم بأسره - في الذكرى السنوية العاشرة لذلك الهجوم الإرهابي - يعاني تبعاته الوخيمة.
يجهد الأميركيون منذ عشر سنين لمداواة الجروح البالغة لذلك التاريخ. يتطلع النيويوركيون، الذين يتشكّلون تقريباً من كل أبناء الأرض، ليس فقط الى إعادة رفع معالم
مركز التجارة العالمي، بل أيضاً الى محاكاة مستقبل مدينتهم منذ الآن.

نيويورك – علي بردى:
حزينة، ككل سنة، هي الذكرى السنوية العاشرة لـ11 أيلول. لم تساو السنون العشر التي مضت شيئاً لدى ذوي الضحايا. لم تخفف أحزانهم. تعود الذكرى كل سنة بهؤلاء الى
تلك اللحظات المريرة. تتكرر الصور المخيفة كل سنة لتحيي ذكرى الموتى. غير أن الحزن ليس مقيماً دوماً في نفوس الأميركيين. مرور السنين العشر لا يدفع فقط الى
آلام ودموع في نيويورك. تبعث المناسبة روح التأمل في حاضرهم ومستقبلهم. يعقدون حوارات كثيرة عن علاقاتهم بعضهم ببعض. يذكرون بالقيم والمثل التي قامت عليها أميركا.
يتساءلون عن جدوى تطابق الديموقراطية والحرية والحقوق التي ينعمون بها على الآخرين. يتحدثون عن علاقاتهم بعمرانهم وبيئتهم المحيطة. يثيرون سجالات عن معنى السياسات
الخارجية لأميركا وخوضها حروباً في أقاصي الأرض. يناقشون مسائل انسانية وأخلاقية مرتبطة بحياتهم الداخلية اليومية. لا يمكن احصاء العناوين التي تعدها المؤسسات
الحكومية ومنظمات المجتمع المدني لإحياء هذه الذكرى في نيويورك وحدها. تزخر الشوارع والمؤسسات والمعارض والمنتديات والمتاحف بكل أصناف المناسبات الخاصة. يحاول
البعض، من دون جدوى في أحيان كثيرة، لصق صفة الإرهاب بكل ما (أو من) هو مسلم وعربي. وفي المقابل يسعى البعض المتبصر الى الحيلولة دون التعميم الأعمى. يتظاهرون
في الشوارع لهذا الرأي أو ذاك، من غير أن يتعدى أي شخص على حرية الآخر في التعبير. رجال الشرطة حسبهم المراقبة، من دون تدخل، حرصاً على القانون وصوناً للنظام
العام.
الأميركيون يكافحون لتبقى بلادهم وهذه الضاحية - الجزيرة المسماة مانهاتن تتسع لكل الألوان والطبقات والأديان والمعتقدات. غير أن المسلمين عموماً يعانون "الإسلاموفوبيا"
والعرب خصوصاً يرزحون تحت "العربوفوبيا"، وويلات مظاهر خوف الأميركيين والغربيين مما ارتكبه، أو قد يرتكبه، نفر من المتطرفين، أكانوا من الإسلاميين أم من العرب،
أم سواهم من الإرهابيين المنتمين الى جنسيات وأديان أخرى.

ذروة الإرهاب العالمي
لا يبدد كل ذلك الصخب أحزان ذوي الضحايا الـ2977. مأساتهم لا تزال هي ذاتها منذ هجمات 11 أيلول على الولايات المتحدة. تلاشى كثيرون حين تمكّن 19 عنصراً من "القاعدة"
من تحويل طائرات الركاب المدنية صواريخ عابرة. تبريراتهم المعاداة لأميركا، والمناهضة للإمبريالية والرأسمالية، والكراهية لمحاباتها اسرائيل والثأر من تجاهلها
معاناة الفلسطينيين، وهلمجراً من الذرائع التي تطول. لم يسأل هؤلاء عن مصير الركاب أو هوياتهم، وبينهم أطفال ونساء وشيوخ وشباب من أكثر من 55 جنسية ومن كل الأديان
والمعتقدات، وبينهم مسلمون وعرب وأربعة لبنانيين (جود صافي واسكندر عيراني وجود موسى وبطرس الهاشم). لم يكترث الجهاديون المهاجمون لأناس أبرياء كانوا يسعون
الى لقمة العيش، بينهم أغنياء وفقراء ومتوسطو حال. يجادل البعض بأن هؤلاء إنما اختطفوا ديناً وصدموا به بعض معالم هذا العصر. يرى آخرون أن هذه الضربة لم تكن
مجرد اعلان حرب على أميركا. كانت رمزاً لبلوغ الإرهاب العالمي ذروة لا سابق لها.
مذذاك، استخدمت الولايات المتحدة كل الوسائل لمكافحة الإرهاب. خاضت حربين معلنتين في أفغانستان والعراق. شرعت قانون "باتريوت آكت" الذي يعتبره كثيرون منافياً
لشرعة الحقوق المدنية الأميركية. اتخذت اجراءات لا سابق لها في مطاراتها ومرافئها. غير أنها "أخفقت الى حد بعيد في ردم الهوة الثقافية التي أوجدها الإرهاب بين
أميركا نفسها وجالياتها المسلمة"، على حد تعبير المديرة التنفيذية لمنظمة "يوث ليد" الخيرية جانيت بن التي قالت في إحدى الحلقات: "حان الوقت كي نسأل أنفسنا:
هل نعلم حقاً صلب ما يصنع الإرهابيين؟ الإرهاب يأتي من الكراهية، ومن الأسهل أن نكره أناساً حين لا نفهمهم". واقترحت أن "نشجع التفاهم والتعاون بين المسلمين
وأتباع الديانات الأخرى" لردم "هوة الاختلاف" بين الأميركيين جميعاً، وليس فقط بين الأميركيين والمسلمين.
سقط برجا مركز التجارة العالمي ووقعت المأساة الكبرى في نيويورك. وفي تلك الذكرى، شاركت الناشطة في منظمة "أهالي 11 أيلول من أجل غد مسالم" طلعت حمداني، في
ندوة على مسافة أمتار من موقع "غراوند زيرو" حيث قضى ابنها محمد في انهيار البرجين. أكدت أن "لا عاقل يأسف للنهاية التي لقيها أسامة بن لادن". لكنها "تأسف بشدة
لأن الناس عندما يعلمون أنها من أصل باكستاني، يسألونها مثلاً: هل التقيت زعيم تنظيم القاعدة؟ هل حزنت لمقتله". يؤلمها مجرد سؤال كهذا. تتضاعف أحزان هذه الأم
الثكلى لأن "الناس، في بعض الأوقات، لا يتركون لنا وقتاً حتى للعزاء!". وإذ تذكر بأن هجمات 11 أيلول "مأساة وطنية للأميركيين، لأن أناساً من كل الديانات ماتوا،
ابني مات"، تتساءل: "لماذا نوضع تحت هذا النوع من الرقابة الأمنية لأننا ننتمي الى الإسلام؟ لماذا هذا العداء للمسلمين؟"، لافتة الى أن "بين الأميركيين مسلمين
وعرباً هنا منذ أجيال. اللبنانيون هنا منذ مئات السنين ككل الأميركيين".

إخفاء معلومات
لا تخفي مديرة جمعية نيويورك للعرب الأميركيين ليندا صرصور، وهي مسلمة تضع الحجاب، هويتها الدينية. لكنها ترفض "التعريف الشائع للإرهاب"، المرتبط حالياً بالمسلمين
حصراً، علماً أنه إذا ارتكب شخص من دين آخر عملاً مماثلاً، لا يوضع في هذه الخانة. وإذ تشير الى تقرير وزعته أخيراً وكالة "الأسوشيتد برس" عن استعانة شرطة نيويورك
بخبرات وكالة الإستخبارات المركزية "سي آي إي" بغية "التجسس" على المسلمين والعرب الأميركيين، تثير مسألة "الإسلاموفوبيا" التي يعانيها كل الأميركيين، وبينهم
المسلمون.
تدفع الذكرى مديرة اتحاد نيويورك للحريات المدنية دونا ليبرمان الى المقارنة بين ما كان واقع الحال قبل عشر سنين و"الوضع الأسوأ اليوم" على مستوى الحقوق والحريات
في نيويورك، موضحة أن ثمة أشخاصاً ذوي أصول آسيوية أو عربية احتجزتهم السلطات واعترفت لاحقاً بأنهم "لقوا معاملة رهيبة". ولاحظت كيف "ابتكرنا بسرعة بعد الهجمات
الآخر الجديد، آخر القرن الحادي والعشرين". هذا الآخر هو أي مسلم وأي عربي. كان "الآخر" في الماضي الأميركي القريب هو الأسود.
طارت شهرة الصحافي خوان غونزاليس لدى صحيفة "الدايلي نيوز" ومنظمة "ديموكراسي ناو" الإعلامية اليسارية، إذ كشف أسراراً عن "انتهاكات أخرى بالغة الخطورة" تتعلق
بـ"اخفاء" معلومات عن الأضرار البيئية والصحية التي نجمت عن انهيار برجي مركز التجارة العالمي و"تضليل" العاملين في السوق المالية لإعادتهم الى وول ستريت لأن
"السلطات أرادت فحسب إعادة فتح البورصة غير مكترثة بأي شيء آخر".
في مكان غير بعيد أيضاً، كانت تقيم عضو المجلس المحلي كاثرين ماكفاي هيوز مع أسرتها التي عانت أشهراً تردي الأوضاع الصحية في المنطقة. بيد أن نشاطها المدني
والحقوقي أتاح لها المشاركة في صنع القرارات المتعلقة، ليس فقط بإعادة موقع مركز التجارة العالمي الذي "ينبغي أن نكف الآن عن تسميته غراوند زيرو"، بل أيضاً
في إعادة تصميم المنظور المستقبلي للأحياء السفلى من ضاحية مانهاتن.
كان محقاً مدير الندوة الصحافي المرموق طوم روبنس، الحائز جوائز عدة، في تأييده ضرورة التعامل مع قانون "باتريوت آكت" والبنود التي "تنتهك" الحريات المدنية
الأساسية باسم الحفاظ على الأمن القومي، على أن تتدخل الحكومة بفاعلية لحماية حقوق الجماعات المستهدفة من دون وجه حق في حملات التمييز والتشويه. وكذلك كان واضحاً
في التعبير عن اعجابه بقدرة النيويوركيين على استخدام أفضل ما لديهم من المقدرات لتجاوز مأساة انهيار البرجين والحوارات التي استمرت سنوات مع ذوي الضحايا وكل
المعنيين وصولاً الى الاتفاق" على كل تفاصيل البنيان الجديد ذي الأبراج السبعة المتفاوتة الارتفاع لمركز التجارة العالمي.

الصورة الجديدة للمدينة
يتساءل الأستاذ الفخري لدى جامعة كولومبيا والمتخصص في التخطيط المديني البروفسور بيتر ماركيوز عن السبب الذي جعل موقع الهجمات "أيقونة". هل مثلاً لأنه "يمثل
تصميم النيويوركيين وقدرتهم على اعادة البناء؟". وتحدث عن أهمية المشاركة الشعبية الواسعة في نقاش أدى في نهاية المطاف الى رسم مستقبل الموقع، الذي سيطبع الصورة
الجديدة للمدينة.
لم تستطع حملات كثيرة لليمين الأميركي المتطرف منذ سنوات وقف مشروع المركز الإسلامي الذي يتبناه الشيخ فيصل عبد الرؤوف على مسافة عشرات الأمتار فحسب من موقع
هجمات 11 أيلول. يندر فعلاً أن يرى المرء - في عالم يتحدث فيه البعض عن "نهاية التاريخ" و"صدام الحضارات" وتزداد فيه النزاعات الدينية والعرقية - راهبين بوذيين
وهما يتعبدان ويبتهلان مشياً، جيئة وذهاباً، بين أبواب المركز الإسلامي هذا وكنيسة وكنيس قبالة موقع البناء الجديد لمركز التجارة العالمي.
نيويورك مدينة المتناقضات التي لا تشبه أياً من مدن الولايات المتحدة أو أياً من مدن العالم. تتفرد بأن لا أحد يشعر بأنه غريب فيها، ليس لأنها مدينة الغرباء،
بل لأنها تطوعت لتستقبل هجيناً من كل أجناس الناس. الزائر فيها - حتى لو كان لا ينطق الإنكليزية - كالمقيم والمواطن. لا مكان فيها ظاهراً لأي تمييز. هي مدينة
الهوامش الواسعة والقلب النابض بسرعة غير معتادة. تضم في شارع وول ستريت تمثال الثور البرونزي، رمز عظمة أميركا وجبروتها المالي. فيها أناس ثراؤهم فاحش يرتعون
في أعالي ناطحات السحاب. فيها العدد الأكبر من المقتنيات الفنية والثقافية لحضارات العالم وثقافاته. فيها أعظم صحافة العالم وإعلامه. بيد أنها تشبه كذلك واحدة
جيدة من مدن العالم الثالث. فيها فقراء يتسولون ومتشردون ينامون على قارعات الطرق. فيها من يؤلف كتاباً بعنوان "الناس الأخلدة" الذين يعيشون في الزوايا المظلمة
القذرة لمترو الأنفاق.
في مقالة نشرتها مجلة "النيويوركر" في عددها الأول بعد هجمات 11 أيلول، كتب هندريك هيرتسبرغ: "بالنسبة الى الذين يقيمون في المحيط المباشر، كان الرعب بالطبع
مباشراً وجلياً. وقعت في ما تعلمنا أنه زمن حي، وفي مكان حي. بالنسبة الى البعيدين – أكانوا على مسافة عشر طرق أم في المقلب الآخر من الأرض – فقد كانوا شهوداً
عبر التلفزيون، كانوا كأنهم يرون الأحداث عبر زجاج براق. واقعهم كان مرئياً، لكنه غير ملموس. تطلب الأمر ساعات للبدء بفهم مقدار (الهجمات). يتطلب الأمر أياماً
لتلاشي دفاعات فقدان المشاعر. سيتطلب الأمر أشهراً – أو سنوات – لقياس أثرها ومعناها".
تحت عنوان "عشر سنين لاحقاً، مدينة للذكريات"، تنشر "النيويوركر" مجموعة صور مع تعليقاتها، من دون نص، لتكون شاهدة فحسب على نيويورك الجديدة، وكذلك على مستقبل
"الحلم الأميركي" فيها.

No comments:

Post a Comment