Wednesday, September 7, 2011

الراعي و«مجد لبنان» ..
ادمون صعب
«... ويحتلبون الدنيا درّها بالدين»
الإمام علي

فيما «خطة باسيل الكهربائية» تعلّق البلاد كلها على خطوط توتر عالية، يبادر رئيس الكنيسة المارونية إلى تعليق توتر اللبنانيين وهواجسهم على خط واحد من أهم مراكز
القرار في العالم.
فقد زار البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي باريس مطلع هذا الأسبوع حاملاً إلى الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي رسالة لبنانية تدعو إلى استخلاص العبر من
الثورات العربية، وخصوصاً بعد مشاركة الطائرات والقوات الفرنسية في إطاحة نظام العقيد معمر القذافي في ليبيا، لافتاً زعماء الغرب، وخصوصاً الدول التي يضمها
حلف شمال الأطلسي الذي ألحقت طائراته دماراً هائلاً في المدن والمنشآت المدنية والعسكرية في ليبيا، إلى ان الحرية والديموقراطية لا تصنعهما المدافع بل ارادة
الشعوب.
وهو صارح الرئيس الفرنسي الذي طالما اعتُبرت بلاده «الأم الحنون» بالنسبة إلى فريق من اللبنانيين، بعدم تكرار التجربة الليبية في سوريا، وأن على فرنسا والأسرة
الدولية «ألا تتسرعا في القرارات التي تريد فيها تغيير الأنظمة وأن تفكرا في ما سيحدث بعد ذلك. إذ ان شن حروب من أجل التخلص من الديكتاتوريات التي كان للغرب،
وفرنسا ضمنه، دور في قيامها ودعمها خدمة لمصالحه، لا يحقق مطالب الشعوب، إذ كان عليها (فرنسا) من زمان «ان تضع شروطاً من أجل الديموقراطية» على الحكام المتسلطين
الذين حمتهم، وهم كثر ومن سقط منهم قليل جداً، لافتاً إلى ان «الاختبارات في العالم العربي كلها أدت إلى الخراب»! وفي اعتقادنا ان زيارة البطريرك الراعي لباريس
تفوق في توقيتها وأهميتها أي قضية مطروحة الآن في لبنان، ذلك ان ذاكرة بكركي حافلة بالمآسي التي جرّها التدخل الدولي في المنطقة، وخصوصاً الفرنسي، منذ سقوط
الامبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، ومعاهدة سايكس ـ بيكو لتقسيم المنطقة ووعد بلفور لإقامة دولة إسرائيل في قلب العالم العربي وطرد الشعب الفلسطيني
من أرضه.
ويقصد بطريرك الموارنة باريس بعد 92 سنة من زيارة البطريرك الياس الحويك لها من أجل مخاطبة مؤتمر الصلح في فرساي مطالباً باسم جميع اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين
ممن شاركوا في الوفد الذي ترأسه، بـ«تثبيت» استقلال لبنان بحدوده الطبيعية.
وقد استعجل الراعي الزيارة، اثر التطورات المأسوية التي تشهدها سوريا، والأخطار التي يمثلها للبنان تبدل الأوضاع هناك، وانعكاس ذلك على العالم العربي، نظراً
إلى ان سوريا تحتل موقعاً محورياً في هذا العالم، وان ثمة تخوفاً في لبنان ان يتدهور الوضع في سوريا، بفعل التدخل الخارجي، والفرنسي تحديداً، فيؤدي إلى اندلاع
حرب أهلية ذات طابع طائفي ومذهبي لا يوفر أحداً بمن فيهم المسيحيون، ومأساتهم في حرب العراق، على أيدي الأميركيين، لا تزال ماثلة في أذهانهم.
ولم يكتم البطريرك تخوفه من ان «تبيع» فرنسا لبنان، كما حاولت ان تفعل عام 1919 بمفاوضتها الشريف حسين لمنح لبنان استقلالاً إدارياً، على ان يكون سياسياً جزءاً
من الدولة العربية التي كان سيرأسها شريف مكة الحسين بن علي. وقد رفض اللبنانيون هذا المشروع الذي عرضه الفرنسيون على الوفد اللبناني إلى مؤتمر الصلح الذي كان
برئاسة داود عمون. وقد جرى استدعاء الوفد إلى بيروت ليخلفه وفد آخر متشدد حيال الاستقلال برئاسة البطريرك الماروني الياس الحويك. ولم يرق هذا الأمر للفرنسيين.
إذ امتنع رئيس الوزراء جورج كليمنصو عن استقبال البطريرك الماروني ما اضطره للتوجه إلى الرئيس بوانكاريه الذي توسط له لدى كليمنصو. وقد قَبل الأخير تسلم مذكرة
من البطريرك تطالب بتثبيت استقلال لبنان بعد استرجاع الأقضية الأربعة التي كانت الدولة العثمانية سلختها عنه، لكنه رفض السماح للبطريرك بمخاطبة أعضاء المؤتمر،
وقرر إعادته إلى لبنان بسرعة في بارجة حربية، رغم مرضه وسوء الأحوال الجوية، وذلك تفادياً لالتقائه الأمير فيصل الذي كان يحضر المؤتمر ويفاوض الفرنسيين باسم
والده على سوريا ولبنان وبلاد ما بين النهرين التي كان مقرراً ان تنتظم في دولة عربية موحدة مع الجزيرة العربية.
من هنا تساؤله: «هل نحن ذاهبون إلى تقسيم سوريا دويلات طائفية»؟ داعياً المجتمع الدولي إلى عدم إشعال الحروب و«مباركتها»، بل النظر إلى أين ستوصل هذه الحروب.

وقال ان هذا همّ لبناني جامع، وليس هماً مسيحياً، فحسب.
وربما يكون البطريرك الماروني من مستقرئي الثورات العربية حكمة وبُعد نظر، عبر ترحيبه بالتغيير الديموقراطي والتقدم على طريق الحرية والتحديث، محذراً من «أي
انحراف نحو التطرف والتفتيت»، وداعياً إلى تجاوز الطائفية ـ وهذا موقف متقدم جداً بالنسبة الى أكبر أحبار الطائفة المارونية ـ والابتعاد عن «الانحراف المذهبي
لمؤسسات الدولة والأنظمة السياسية الدينية التي تنخر في جسم مجتمعات الشرق الأوسط».
ورأى ان لا حل إلا بدولة مدنية «تنتظرها شبيبتنا لتتمكن من ان تنمو وتنضج في مجتمعها. وهذا أيضاً علاج للهجرة المستمرة».
إننا أمام بطريرك استثنائي، كان اللبنانيون ينتظرونه خليفة للبطريرك الحويك الذي جاء بالاستقلال فأُعطي «مجد لبنان»، وها هو البطريرك الراعي يبشر بالدولة المدنية
«علامة رجاء وأمل»، في موقف شجاع في مواجهة اليائسين من الحل الوطني للقضية اللبنانية، بالانتقال من دولة الطوائف إلى دولة المواطنة والمساواة، بعيداً عن مشاريع
التفتيت والشرذمة والحكم التقسيمي اللامركزي الذي يدعو إليه بعض أمراء الحرب المسيحيين.
edmond@edmondsaab.com

No comments:

Post a Comment