Tuesday, September 13, 2011

> البطريرك يضع ملحه على خيارات بكركي

البطريرك يضع ملحه على خيارات بكركي
ورث الراعي من صفير عداءً ثقيلاً مع الشيعة وتحالفاً ثقيلاً مع السنّة (هيثم الموسوي)

ارتفعت نبرة المتحفظين عن مواقف البطريرك الماروني عندما كان لا يزال في باريس، وهدأت تماماً حينما عاد. كان البعض من هؤلاء يعتزم تنظيم احتجاجات. انتهى الأمر
بأن هدأوا وقرّروا أن يناقشوا البطريرك في مواقفه. هكذا عادوا جميعاً ــ أو يكادون ــ إلى جبّته

نقولا ناصيف

عندما انتخب البطريرك مار بطرس بشارة الراعي على رأس الكنيسة المارونية، كان الاعتقاد الشائع حصول انتقال للسلطة في إجراء مألوف عرفته الكنيسة أكثر من مرة، من
بطريرك متقدّم في السنّ هو مار نصر الله بطرس صفير لم يخفت بريقه ولا انكفأت استثنائيته، إلى خلف فأجأ انتخابه الكثيرين بمَن فيهم البطريرك الجديد نفسه.
لم تكن السنّ المتقدّمة وحدها العامل الذي شجّع الفاتيكان على فرض انتقال السلطة على حياة البطريرك، ولم يسبق للكرسي الرسولي أن فرض هذا التقليد في كل مرة تقدّمت
السنّ ببطريرك، بل أضحت خيارات بكركي في ظلّه في مأزق أيضاً. بدت صحة صفير أفضل من صحة بكركي.
كان الظنّ عند انتخاب الراعي أن شيئاً لن يتغيّر في الكنيسة المارونية سوى رأسها. لا الثوابت، ولا منطق العمل وطريقة التفكير، ولا أسلوب التعبير، وخصوصاً أن
البطريرك الخلف عمل في ظلّ سلفه نائباً بطريركياً ثم في أبرشية جبيل التي مثّلت جزءاً لا يتجزأ من حصن نفوذ الكنيسة ومقدرتها على اجتذاب الشارع وتوجيه اتجاهاته
في جبل لبنان الشمالي. كان الظنّ أيضاً أن البطريرك الجديد الذي كان في صلب مجلس الأساقفة الموارنة على مرّ العقود الأخيرة، وأخصّها بعد عام 2000 عندما قرّرت
بكركي أن تكون قائدة المواجهة المسيحية لوجود سوريا في لبنان، سيقود المواجهة نفسها عندما يتزعزع استقرار سوريا، على غرار ما فعل سياسيون لبنانيون مسيحيون ومسلمون
توقعوا الزلزال السوري قبل وقوعه. كمنت المفارقة هنا في تزامن انتخاب الراعي مع اندلاع الاضطرابات هناك في 15 آذار الماضي.
على أن ما قاله البطريرك الجديد بين انتخابه وتنصيبه، ثم في المرحلة التالية حتى الأمس القريب في باريس، أظهَرَ مغزى التغيير الذي لفح هواؤه البارد بكركي. لم
تنتقل سلطة الكنيسة من بطريرك إلى آخر، بل انتقل البطريرك الجديد ببكركي من موقع إلى آخر: أن يملّح خياراتها.
بالتأكيد ترك صفير للراعي تركة ثقيلة شأن كل بطريرك كان يخلفها لسلفه. ذلك ما فعله أنطون عريضة لبولس المعوشي، والمعوشي لأنطون خريش، أكثر بطاركة العقود العشرة
الأخيرة وداعة. كل بطريرك أورث خلفه أزمة مع رئيس الجمهورية، وثانية مع جزء من المسيحيين وجزء من الموارنة، وثالثة مع علاقة لبنان بجواره. كان عريضة على خلاف
مع الرئيس بشارة الخوري، وأول مَن نادى بعلاقات مميّزة بين لبنان وسوريا بدت منفّرة في مطلع ثلاثينات القرن المنصرم. وأدار المعوشي بطريركيته في نزاع محموم
مع رئيسين للجمهورية هما كميل شمعون وفؤاد شهاب، فيما هو يتحالف مع الرئيس جمال عبدالناصر ويُغضب نصف الموارنة. وهكذا صفير اختلف مع الرئيسين الياس الهراوي
وإميل لحود وتصالح معهما وسجّل سابقة دعوته رئيس الجمهورية إلى التنحي عام 2005، وبعدما غادرت سوريا لبنان بقي على خلاف معها، ولم يتردّد في 16 شباط 2005 في
اتهام «النظام الديكتاتوري الذي تعوّد قطع رؤوس قادة الرأي» باغتيال الرئيس رفيق الحريري، من غير أن يسمّي سوريا.
لم يكن الراعي أول بطريرك يخلف سلفه حياً. قبله خلف صفير خريش، وقبلهما خلف المعوشي ــــ وكان رئيساً للجنة رسولية ــــ عريضة المتقدّم في السنّ. بيد أن انتخاب
الراعي حمل مضموناً مختلفاً، هو رسم الكنيسة المارونية لنفسها خيارات جديدة تستجيب لمرحلة جديدة من التحديات التي يجبهها مسيحيّو الشرق.
منذ انتخابه أطلق سلسلة مواقف بدت لمَن اعتاد مواقف سلفه نافرة: صفحة جديدة في العلاقة مع سوريا مع إبداء الاستعداد لزيارتها، بتّ سلاح حزب الله بالحوار الداخلي
وتبريره في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي، تصويب اتفاق الطائف حيال ثغر تشوب صلاحيات رئيس الجمهورية، الذهاب إلى الرعية حيث تكون لا انتظارها تأتي إليه.
عندما يتحدّث البطريرك في حلقات مقفلة، لا تختلف كثيراً عمّا يفصح عنه في العلن، كان يقول:
ــــ إن السياسيين هم الذين يتبعون البطريرك لا العكس. لا ينتظر ما يقولون كي يباركه ويؤيّده، بل يسبقهم إلى ما يتعيّن أن تقوله الكنيسة من أجل أن ينضمّوا إليها.
ــــ لا يريد كنيسة ردّ الفعل، بل الفعل نفسه.
ــــ يبدي حذره من حدّة الخلاف السنّي ــــ الشيعي، وخشيته من جرائه على الوجود المسيحي. ويعتقد بأن عدم الاستقرار في لبنان مردّه إلى هذا الخلاف، ولا يتحمّس
للمسيحيين في موقع المدافعين عن السنّة أو المدافعين عن الشيعة، بل صمام أمان يفك الاشتباك بينهما، كما كانوا دائماً.
ــــ كان يقول بما لم يسبق أن سمعه سياسيون مسيحيون من سلفه، وهو أن البطريرك يجب أن يكون فوق النزاعات والخلافات السياسية بين السياسيين. والحريّ أن يكون كذلك
في خلافات السياسيين المسيحيين والموارنة خصوصاً، فلا يصبح جزءاً من هذا الخلاف، ومن أجل أن يكون في وسع بكركي أن تصبح عندئذ مرجعاً يحتكمون إليه. عندما تمسي
قطعة من الخلاف مَن يُملّح مصالحة المسيحيين.
ــــ يثق بالاعتدال، ويرى نفسه صوته، وتقلقه التيارات المتشدّدة، وأخصّها الأصولية التي يراها خطراً حقيقياً على المجتمعات المتنوعة.
ــــ كان يقول أيضاً إن للصرح موقعاً في السياسة لأنه جزء من تاريخ لبنان، ولكنه لا يخوض في التفاصيل. يفضّل البطريرك التفاصيل للسياسيين والقواعد للكنيسة.
ورث من سلفه عداءً ثقيلاً بين بكركي والطائفة الشيعية بسبب موقفها من سلاح حزب الله، وورث منه كذلك تحالفاً ثقيلاً مع الطائفة السنّية بسبب اغتيال الحريري الأب.
كلاهما عبءٌ على الكنيسة عندما تنحاز إلى أحدهما أو تنقلب على الآخر. الحلف الثقيل كالعداء الثقيل. بذلك وصف سلاح حزب الله بأنه غير منطقي وغير مقبول، ولكن
استمرار الاحتلال يبرّره، وأصرّ على العدالة ووقف القتل والاغتيال، ولكنه حذر من محكمة مسيّسة.
لم يلمس البطريرك أن مسيحيي 14 آذار تحمّسوا لانتخابه، ولا طمأن مسيحيي 8 آذار إليه بعدما كانوا اتهموه بمحاربتهم في انتخابات جبيل عام 2009. أتى انتخاب الراعي
كي يكون مصدر إقلاق الجميع من الدلالات الجديدة التي يحملها انتخابه أولاً، وتحملها خياراته ثانياً، ويحملها الموقف الحازم للفاتيكان في انتقال السلطة إلى الراعي
كي يبحث عن رعيته خارج المتن وكسروان وجبيل.

No comments:

Post a Comment