Thursday, September 15, 2011

> بشير الجميل: حكاية صورة

بشير الجميل: حكاية صورة
راقبته والدته ينزع الصورة مرددة: كنت أعلم أنك حين ستتعرف إليه أكثر ستنزعها (أرشيف ــ مروان طحطح)

في الحادية عشرة من عمره، رفع طفل صورة بشير الجميّل في غرفة نومه. بعد أحد عشر عاماً نزع تلك الصورة. انزعج «عمو صادق» منه، وكذلك أقرباؤه المغتربون. لكنه لا
يبالي؛ إذ يريد أن يكون حيّاً في نفسه، بدل أن يكون بشير حيّاً فيه

غسان سعود

صورة بشير الجميّل لا تزال في الغرفة. الغرفة الأصغر في المنزل الكبير. المنزل في عكار، في بلدة يُعَدّ فيها الكتائبيون على أصابع اليد الواحدة. تروح أفكار وتأتي
أخرى. ما الذي أتى بهذه الصورة إلى هذه الغرفة؟ يتذكر الآن، كان في الحادية عشرة من عمره: قصّها بعناية من مجلة «المسيرة» وعلقها على الحائط. هو من مواليد عام
1983. حين وُلد كان قد مرّ عام كامل على مقتل بشير. لم يسمع خطاباته إذاً، لم ير هالة النور المحيطة برأسه ليصدق، لم يندسّ بين الحشود ليلمس طرف قميصه.

يرفع صورة لرجل قُتِل قبل اثني عشر عاماً، من دون أن يكون متأثراً بكاريزما «صاحب الكاريزما». يتذكر الآن، أنه قصد مكتبة جيهان في البلدة التي لم تكن تبيع إلا
نحو عشرين عدداً من صحيفة «الديار» التي كان يساريو البلدة يواظبون على شرائها، وعددين من «المسيرة» التي كان يمينيو البلدة يواظبون على شرائها. اشترى «المسيرة»
يومها لأن صورة الغلاف كانت لبشير. يتذكر الآن أن والدته عاتبته قليلاً. كانت ذكرى الانتظار الطويل والإذلال على حاجز المدفون أكثر تأثيراً في ذاكرتها من كل
شيء آخر. بشير بالنسبة إليها هو القوات اللبنانية، القوات التي كانت تحتفل بدخول الجيش السوري إلى مختلف مناطق جبل لبنان بعد إبعاد العماد ميشال عون. وهي أصلاً
تمقت شياطين الشرق «القديسين» وقديسي الشرق الشياطين، وتخشى على ابنها من عنجهية السلاح المسند إلى الصدر. لزم والده الصمت، أما عمه السوريّ القوميّ الاجتماعيّ
فقص على مسمعه رواية طويلة تختصر بثلاث كلمات: «لكل خائن حبيب». يتساءل الآن عمّا دفعه إلى لصق تلك الصورة تحديداً في غرفته. كانت أرض بلدته التي هي بلدة مؤسس
نمور الأحرار نعيم بردقان خصبة لتنبت على جدران غرفته صور كميل أو داني شمعون. كانت النقاشات القومية في صالون منزله تبرر ظهور أنطون سعادة في غرفته. كان محتملاً
تحول ميشال عون من صوت متغلغل في رأسه من أيام «بيت الشعب» إلى صورة معلقة فوق سريره. لكن لماذا بشير الجميّل؟ لا مبرر عائليّاً للصورة، ولا مناطقيّاً ولا سياسيّاً
طبعاً، وهو في الحادية عشرة من عمره. يفكر قليلاً، يتذكر أن «عمّو صادق» كان يصعد وبعض الأطفال إلى الطبقة الثانية من منزله ليريهم صورة بشير، يخبرهم بأنه القائد
البطل الذي استشهد في معركة الدفاع عن لبنان، وأنه لم يمت. فهو كالمسيح قام في اليوم الثالث. «بشير حيّ فينا» كان يقول «عمّو صادق» بثقة استثنائية، بإيمان مسيحيّ.
هو ـــــ عمّو صادق ـــــ ابن خوري القرية، كان يتمتع بالصدقية. يتذكر الآن أن والدته أخبرته أن أقرباءه أولئك الذين التحقوا ببشير في بيروت، قد اغتنوا وباتوا
يملكون منازل مميزة في العاصمة. تعيده ذاكرته إلى ذلك «الكاسيت» الذي أهداه إياه قريب آخر، تتخذ فيه الأغاني شكل تراتيل: يصبح بشير هو الكرامة والبطولة والحلم
الجميل. يردد وحده في الغرفة: «بعدك يا بشير، عايش يا بشير، بقلوب الشبيبة وبأرزة لبنان». يتذكر أن أعمامه الذين هاجروا إلى أوستراليا مطلع الثمانينيات كانوا
يزورون لبنان في الفترة التي علّق فيها الصورة. يغيب هؤلاء عقوداً ويعودون كأنهم غادروا لبنان تواً، معتقدين أن عليهم غمر الرشاش حين ينامون؛ لأن «الفلسطيني»
سيطرق الباب فجأة ليسلبهم أرضهم، وأن بشير ـــــ ما غيره، بشير الحي فينا ـــــ سيدافع عنهم ويبني لهم «لبنان القويّ» فيعودون إلى أرضهم.
حين ترفع صورة في غرفتك يصبح صعباً إزالتها من نفسك. تصبح معرفة المزيد عن بشير، معرفة المزيد عن نفسك. يصبح الدفاع عن بشير دفاعاً عن النفس: أفكار الصورة أفكارك.
سيقنع نفسه إذاً بأن «السلاح زينة الرجال» وأن «الوجود المسيحي في خطر» وأن «بشير ثائر على الإقطاع العائلي، فهو بالصدفة فقط ابن بيار الجميّل».
بالنسبة إلى المؤمنين المسيحيين، يجب عكس وجود المسيح في داخلهم خلال حياتهم اليومية، سواء في تعاملهم مع الآخرين أو أدائهم عملهم. «بشير حيّ فينا»، لا بد من
التصرف إذاً. لنكون «على صورة بشير ومثاله». يفهم الآن أن ذلك الصوت الداخلي المجهول الذي كان يأمره بانتقاء اللون الزيتي حين تصحبه والدته إلى السوق لشراء
الثياب، كان صوت بشير. يتفهم الآن أن الشوق الدائم إلى السلاح الذي كان يكبر في داخله إنما كان شوق بشير. الصورة إذاً هي سرّ العبارة العنصرية بحق الفلسطينيين
التي كتبها على باب غرفته وسارع إلى محوها حين شاهد في واحدة من المرات النادرة غضب والدته؛ هي التي نشأت وتربت مع جيران فلسطينيين في الكويت. السر في الصورة:
هي الدافع إلى شرائه النظارات السوداء التي أضحكت أصدقاءه؛ لأنها أكبر من عمره. وهي الدافع إلى دفاعه بعد سنوات بشراسة عن عظمة مجازر القوات اللبنانية في المخيمات
الفلسطينية. فكيف يقبل بأن يتهم برفع صورة لقاتل أو لمجرد ميليشياوي آخر؛ الدفاع عن بشير هنا، دفاع عن النفس.
تكبر الصورة، يصفرّ ورقها مع الوقت. يعلمه العونيون في المدرسة، ولاحقاً في الجامعة، أن ميشال عون ما هو إلا مكمّل مسيرة بشير. كان يسمع مسؤول التيار في كلية
الحقوق ـــــ الفرع الثالث يردد: بشير حيّ في الجنرال، كما هو حيّ فيك. ولاحقاً في الفرع الثاني، تتسع الغرفة أكثر وتزداد جدرانها: صور بشير تملأ جدران الأشخاص
والمكاتب والمطاعم والأحزاب والجامعات. يتناتشون بشير. هنا يروى عن عشاء مع بشير، هنا ترسم معركة قادها بشير، هنا يتجادل عوني مع قواتي تحت أنظار كتائبيّ بشأن
مَن مِن زعمائهم هو الوريث الحقيقي لبشير، وهنا تخبر راهبة عن بشير الذي ظهر لها في المنام وأوصاها بإكمال المسيرة.
هناك أشخاص كثر في جيل ولد بعد عام 1982 يرددون بإيمان: «بشير حيّ فينا». لم تصلهم «الرسالة» مكتوبة. سمعاً وصلتهم، ومع ذلك يرددون «بشير حيّ فينا». يقف قبل
بضعة أيام قرب ساحة ساسين في الأشرفية ليراقبهم يرفعون صور بشير. يشبههم ببعض عقله وأحلامه وهواجسه؟ ربما. كان هناك من دون شك أكثر من «عمّو صادق» واحد، وأكثر
من ألف رواية عن بطولة أولئك الذين تركوا كل شيء في قراهم ليتبعوا بشير، وآلاف المغتربين المؤثرين في المقيمين أكثر من بعض المقيمين أنفسهم. ثم إن الجرس الذي
من أجله قاتل بشير ما زال «يدقّ»؛ انتصر بشير إذاً. حقق معجزة إضافية لمجتمع يعيش على المعجزات.
حين تنزع صورة عن الحائط بعد أحد عشر عاماً، يترك مكانها أثراً، وغالباً ما ستتراءى لك الصورة حتى بعد نزعها. ينظر في الفراغ ويفكر لماذا نزع تلك الصورة من
مكانها؟ ربما لأن بشير قتل قبل نحو ثلاثين عاماً والتعلق بالأموات مرض غير محبب بالنسبة إليه. وربما لأنه سئم صوت بشير الحيّ فيه، الذي يريد له أن يقف في تفكيره
وأحلامه وانفعالاته حيث كان بشير يقف قبل ثلاثين عاماً، وكأن موازين القوى في الداخل والخارج لا تزال هي نفسها، وكذلك الديموغرافيا والعلاقات بين الطوائف والأحزاب.
وربما لأنه اقتنع بأن العناد الأقلويّ البشيريّ الذي رفض التنازل عن بعض مكتسبات طائفته من أجل شراكة حقيقية مع الطوائف الأخرى أوصل في نهاية الأمر إلى ما يشبه
القضاء الكامل على مكتسبات الموارنة في النظام اللبناني. ربما لأن الأجراس «بدها تضل تدق» حتى لو هزم بشير. وربما لأن خيار بشير التفاهم مع إسرائيل ضد نصف شعبه
بحجة تفاهم هذا النصف مع الفلسطينيين ضد النصف الآخر، هو خيار يثير الاشمئزاز. وربما لأن بشاعة ارتكابات القوات في المخيمات الفلسطينية وخارجها وبعيداً جداً
عنها، أبشع بكل المقاييس الإنسانية من كل فظاعات العالم، فلم يحتمل رفع صورة قائدها في غرفة نومه. وربما لاكتشافه أن خيارات بشير لم تكن قط خيارات الكنيسة التي
وقفت مع الفاتيكان يصرخان بالمقاتلين: عودوا إلى أسركم، وجودنا في هذا الشرق يتوطد من خلال زراعتنا لأرضنا وتعليمنا لأبنائنا وتمتين علاقاتنا بجيراننا، لا عبر
السلاح.
يحدق في الفراغ، يتذكر عادات أهل القرى في تعظيم شؤون أمواتهم. يتذكر صديقاً له «أزعر» قتل في حادث سير، فإذا به يتحول خلال دقائق إلى ما يشبه القديس. ينتبه
إلى مفارقة أن هذا البلد لم ينجب إلا سياسياً عظيماً قديساً واحداً اسمه بشير، وصدف أن عظمته لم تظهر إلا بعد مقتله.
يتذكر أن والدته وقفت مبتسمة بعينيها الدامعتين تراقبه ينزع الصورة. وبعد انتهائه، اقتربت منه هامسة: قلب الأم لا يخطئ، كنت أعلم أنك حين ستتعرف إليه أكثر ستنزع
الصورة.

No comments:

Post a Comment