Wednesday, September 7, 2011

> عاصمة الفقراء تنتظر الـ«بوعزيزي»

عاصمة الفقراء تنتظر الـ«بوعزيزي»
طرابلس تحتاج إلى أكثر من «كرتونة إعاشة» في شهر رمضان ومهرجان كبير في العيد (أرشيف ــ هيثم الموسوي)

لم تبدأ ورشة الإنماء والتنمية في مدينة طرابلس بعد. فوزراء المدينة الخمسة يعتقدون أن أمامهم متّسعاً من الوقت، ما دام تيار «المستقبل» أضاع قبلَهم خمسة عشر
عاماً. المدينة تعضّ على أصابعها، وتنتظر «بوعزيزي»

غسان سعود

كأن الشمس من دكانه تشرق. صلاة الفجر توقظها لكنها تتثاءب حتى تناديها رائحة الفول عند الخامسة إلا ربعاً صباحاً. يبتسم الفوال «أبو ثائر» لصياح الديك. هذا برأيه
دليل على قروية الحياة المدينية في طرابلس. تخيّل منطقة «باب الحديد» الأكثر كثافة في طرابلس بكاراجات تصليح السيارات يوقظها... ديك.
على البناية الأولى صورة تجاوز عمرها خمس سنوات للرئيس رفيق الحريري، كتب عليها «لن ننساك يا معلم الأجيال». خلف البناية محطة وقود رفعت فوقها صورة الرئيس سعد
الحريري. لا حاجة إلى عبارة مكتوبة هنا، فالصورة عنوان المكتوب. خلفها صورة جديدة للرئيس نجيب ميقاتي تلمع تحت الشمس، تغطي بناية قديمة قديمة، يعاني من كتب
عليها «الوصول لبنان إلى شاطئ الأمان» ضعفاً في اللغة العربية. من متجر «أبو ثائر» ستطل بناية رابعة تحمل صورة الوزير محمد الصفدي، وخامسة تحمل صورة الرئيس
عمر كرامي. ينتهي الفوال من ترتيب العدة ليلتفت إلى المرآة، محدثاً نفسه: أراهم ولا يرونني... أراهم ولا يرونني... يحمل مع صحني الفول والحمص رواية: قبل بضع
سنوات قرّر «بوعزيزي» من أحد هذه الأحياء الترشح إلى الانتخابات النيابية فسخرت وجيراني منه. هكذا، من دون مقدمة أو مبرر، يكمل الفوال حديثه مع المرآة بعيداً
عنها، متسائلاً: ترى كم «بو عزيزي» قتلنا؟ ويجيب نفسه: الآلاف، الآلاف، يومياً.
طرابلس في الصباح أنظف: أبنيتها القديمة كالنبات المتسلق على شرفاتها تتنفس في الليل. الشوارع تبدو فجأة عريضة والأحياء مرتّبة. يتمكن بائع الكعك فور انتهائه
من ترتيب الرزق في عربته من أن يحدد بسرعة اتجاه القبلة، فقد سبق لركبتيه خلال السنوات العشر الماضية أن حفرتا عميقاً في الغبار فوق الرصيف، وما عليه إلا ملء
الفراغ الغباري بالركبة المناسبة. يعود فرحاً من الصلاة. لا يحق، بحسب رأيه، لمن بخل على طرابلس عشرين عاماً بالمشاريع الإنمائية أن يسائل ميقاتي بعد بضعة أشهر
فقط على رئاسته للحكومة عمّا قدمه للمدينة. يوقد فحم «الكانون» لتسخين الكعك ويقول: أنا أدافع بشدة عن الرئيس، لكننا لا نستطيع مساعدته إذا لم يساعد نفسه. طرابلس
برأيه تحتاج إلى أكثر من «كرتونة إعاشة» في شهر رمضان ومهرجان كبير في العيد. كيف يمكن مدينة بهذا الفقر كله أن يمثّلها في المجلس النيابي أهم أثرياء البلد:
نجيب ميقاتي ومحمد الصفدي وروبير فاضل ومندوبو سعد الحريري؟ نحن الفقراء، يقول بائع القهوة، لا نثق بأنفسنا ونعتقد أن الأغنياء سيأخذوننا إليهم. في كل موسم
انتخابي يتصدقون علينا ببعض الأموال والوعود ونتصدق عليهم بأصواتنا. وفي النتيجة، يتابع الحاج ياسر، مع أصواتنا وبدونها مقاعدهم النيابية محجوزة. فلا «تتفلسف»
كثيراً، لا نحن ولا أنت من يوصل النواب أو يسقطهم.
في الدراسات التي أعدّتها وزارة الشؤون الاجتماعية في السنوات العشر الماضية، ترد دائماً في مقدمة الدراسة العبارة نفسها: «ينتشر بين سكان طرابلس شعور واسع
بالتهميش والإهمال المزمن من قبل الدولة. وثمة اعتقاد واسع لدى أصحاب الرأي والمسؤولين المحليين أن معالجة مشكلات طرابلس لا يمكن أن تتم على نطاق صغير ومحدود
ولا جزئياً، بل هناك حاجة إلى اعتماد رؤية وبرامج متكاملة على نطاق المدينة ككل، تمثّل إطاراً مساعداً لأي تدخل جزئي أو قطاعي». رؤية! برامج متكاملة!
لا يمكن أعظم الموسيقيين في هذا البلد منافسة « أبو وديع الحارة». على الإصبعين الخلفيين في كفه يعلق إبريق القهوة، فيما تراقص الأصابع الثلاثة الباقية فنجاني
قهوة. ينطرب الحي ورائحة البن «الوسوفيّ » تُسكر. يخشى أبو وديع أن يكون القلم والورقة مقدمة لاستمارة تخصّ إحدى جمعيات حقوق الإنسان. فهو يتساءل بجدية عمّا
تفعله تلك المؤسسات بكل تلك الاستمارات، وعمّا تبتغيه الوزارات المعنية من تكرار إجراء الدراسات نفسها كل بضع سنوات، بدل صرف الأموال على أمور تنفع الناس. يعدّد
أبو وديع احتياجات الأهالي كما يسمعها يومياً وفق الأولويات: يبدأ بوجوب توفير فرص عمل، يمرّ بخفض الفاتورة الصحية والإيجارات وفاتورة التعليم وعشرات المطالب
الأخرى، وينتهي عند وجوب تأمين بعض أماكن الترفيه كالحدائق العامة. ويبتسم مؤكداً أن المسؤولين لا يلتفتون من كل ما سبق تعداده إلا إلى الحدائق العامة. فلا
شيء أعزّ على قلوبهم من إنشاء حديقة عامة لإطلاق أسمائهم أو اسم أحد أقربائهم عليها.
عند الثامنة صباحاً تستعيد المدينة ملامحها الطبيعية: صخب، 3 كيلو خيار بألف ليرة، سيارات تطاحن سيارات، تختلط روائح السمك بروائح الدجاج والفاكهة المهترئة،
ويمكن أن تصادف أثناء سيرك في أحد الأحياء جزاراً يذبح بقرة أمامك مباشرة فتغطي دماؤها ثيابك. كيفما التفتّ في طرابلس ستلاقيك ابتسامة. الناس هنا يبتسمون لكل
شيء. هم اختصاصيون في ندب حظهم والتذمر من واقعهم، ولكنهم في موازاة هذا كله رائعون في ابتسامتهم. وحده الطرابلسي يشتكي متبسماً. لكن المدينة الباسمة تخبّئ
مآسي كثيرة. فحرص فاعليات المدينة على مظهر المدينة العام وجمالها يدفعهم منذ بضعة أيام إلى مطاردة أصحاب البسطات، أولئك الفقراء الفقراء، ومصادرة عرباتهم تلك
التي بعرق أقدامهم ابتاعوها، لرميها بوحشية في إحدى زوايا المدينة. أول من أمس، حالت الدموع في عيني الشاب العشريني، الذي كان يبيع «الكلسات» على بسطة صغيرة،
دون تمكن أحد المحيطين به من سؤاله عن اسمه. قرفص في مكانه، متفرجاً بدهشة على ذلك الرجل السمين ذي البذلة الرسمية البشعة، الذي وقف وعناصر الأمن المحيطين به
يصرخ بأعلى صوته، طالباً من العناصر مصادرة العربة ومن الشاب العشريني المغادرة. قرفص. لم يقوَ على الركوع. بدت الدموع معلّقة تماماً كالكلمات في حلقه، كصمت
المحيطين بالجريمة. كانت على عربته صورة للرئيس رفيق الحريري وأخرى للرئيس نجيب ميقاتي: ما أبعدهما الآن، ما أقربه دائماً وما أبعدهما.
لا يوجد مشروع تجاري مهم واحد في مدينة روبير ABC فاضل. لا يوجد مشروع استثماري مهم واحد في مدينة وزير المال محمد الصفدي. لا يوجد مشروع صناعي، حتى لو كان
غير مهم، واحد في مدينة وزير الاقتصاد نقولا نحاس. لا يوجد برنامج شبابي جاد في مدينة وزير الشباب والرياضة فيصل كرامي. لا توجد خطة إنمائية قيد التطبيق واحدة
في مدينة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي. والمستقبل!
يسأل ذلك الرجل المقعد الذي يغيّر زيت السيارات بطريقة عجائبية في باب الحديد بحرقة: كيف يجرؤ تيار المستقبل على الحديث عن إنماء هذه المدينة؟ نحن ضحايا (يتذكر
الكلمة الكبيرة ويتابع) استراتيجيتهم الإنمائية. طرابلس الجديدة التي تسهر بالقرب من البحر حتى ساعات الصباح الأولى في المطاعم الواسعة والفخمة تخنق طرابلس
القديمة التي كانت تشكر ربّها ألف مرة لأن مظاهر الغنى بعيدة عنها: «نسمع بها ولا نراها ». أما الآن، ففقراء الشمال المتكدّسون في عاصمتهم يتفرجون يومياً على
سفك الأموال، أموالهم. حين يعضّ ياسر على شفته الشفلى، يبلع مصطفى ريقه ويشعل ثالثهما سيجارة. سيتبيّن بعد قليل من محادثتهم أنهم يأملون الحصول على وظيفة في
تلك المطاعم أكثر مما يأملون الجلوس كزبائن على طاولاتها.
يهربون إلى البحر؟ يجوز . لكنّ رائحة مياهه المعطّرة بمياه المجارير، تقتل. المخلفات الإنسانية التي تطفو فوق أمواجه، تقتل. صورة الرقعة السوداء التي تظهر من
جهة البحر مظللة للمدينة الملوثة، تقتل أيضاً.
توقف أصحاب الدكاكين عن بيع المثلجات والزبدة البلدية والأجبان واللبنة واللبن. ففي ظل الانقطاع المتواصل للكهرباء، وعجز صاحب الدكان عن دفع مئتي دولار للاشتراك
في المولدات الكهربائية الخاصة، بات الاتجار بهذه جميعها يُخسِّر.
ترتفع كف أبو عمر في الهواء، هذه كف الفقير، يقول ويأمر: عدّد معي. الإصبع الأول: قارورة الغاز بخمسة وعشرين ألف ليرة. الإصبع الثاني: تنكة البنزين بخمسة وثلاثين
ألف ليرة. الإصبع الثالث: كيلو لحم البقر بعشرين ألف ليرة. الإصبع الرابع: «سيتارن» المياه بخمسين ألف ليرة. الإصبع الخامس: الخبز...
في طرابلس، يخجل الأهالي عند سؤالهم عن المبرر الذي يدفعهم إلى رفع صور المسؤولين عن تردّي أوضاعهم المعيشية، فيحلفون بكل صدق أنهم لن ينتخبوهم مجدداً. لكنهم،
وكما هو متوقع، سيعيدون انتخابهم مرة سادسة وسابعة. إلّا أن التجوال في المدينة وسماعها يوحيان بأن ثمة يوم آت من دون شك، سيعضّ فيه المسؤولون أصابعهم. لا يمكن
ذلك اليوم ألّا يأتي. كل ما في طرابلس يوحي بذلك. تلك البنايات الشاهقة الفارغة، أولئك الأحياء المكدّسون في أحياء ميتة، رائحة الأموال التي تحرق على مقربة
ممن ينبشون نفايات المطاعم ليقتاتوا، آلاف الـ«بوعزيزي» المطمورون هنا، وكل ذلك الغضب المتبسّم يوحي بذلك.

No comments:

Post a Comment