بيلمار يرمّم معنوياته بالشكوى والتجاوزات.. وزيارة واشنطن!
المحكمة الخاصة بلبنان: ارتباك وضعف.. وتضارب صلاحيات
حكمت عبيد
نوعان من الملاحظات يمكن أن يلحظهما المتابع لملف «المحكمة الدولية الخاصة بلبنان»، النوع الأول، سياسي ومرتبط مباشرة بقرار إنشائها والغايات السياسية التي أعلنت،
على لسان معنيين بالقرار الدولي، إلى جانب مواقف شبيهة صدرت عن قوى سياسية معنية بجريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري بحيث تقاطعت هذه الغايات لدى الطرفين،
الدولي والمحلي، عند فكرة الاقتصاص والثأر من سوريا وحزب الله. فسوريا بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية عائق إقليمي أمام مشروعها الجديد في المنطقة وحاضنة
كبيرة لحالات المقاومة فيها. أما حزب الله، فهو عصب المقاومة في لبنان، وعامل قوي يمنع سيطرة حلفاء الولايات المتحدة الأميــركية على الحكم بقوة الجريمة وتداعياتها.
أما النوع الثاني، فهو تقني، مهني يرتبط بآليات عمل المحكمة، والحكم على تجربتها منذ ولادة لجنة التحقيق الدولية وصولاً لقيام المحكمة وبدء عملها كمؤسسة قضائية
متكاملة.
من نافل القول إن القوى السياسية التي راهنت على المشروع الأميركي الجديد في المنطقة وأعلنت ذلك صراحةً، ستبقى على مبادئها مع ما يستلزم ذلك من مواقف تفصيلية
في قضايا فرعية، كمسألتي المقاومة والمحكمة. وحتى الآن فإن الاستثناء الوحيد الذي سُجّل خلافاً لهذه القاعدة، تمثل في تمايز النائب وليد جنبلاط عن سائر القوى
السياسية التي تحالفت ضمن معسكر واحد أثر اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. ومن المؤكد أيضاً أن هذه القوى لن تتراجع عن توظيف كل امكاناتها السياسية في سبيل
تحقيق مصلحتها السياسية الداخلية.
أما في الجانب التقني المرتبط بموضوع المحكمة، فالموضوعية تقتضي عدم استباق القرار الظني، ولكن التجربة السابقة لعمل لجنة التحقيق الدولية بشكل عام ومن ثم ما
يظهر بين الفينة والأخرى من أداء مرتبك لعمل المدعي العام لدى المحكمة دانيال بلمار، يجعل من الحكمة أن يتيقظ اللبنانيون ويتنبهوا مما يحاك لهم ولوطنهم من بوابة
القرار الظني، ولا بد هنا من تسجيل بعض الملاحظات التقنية إذا صح التعبير في سياق رصد الواقع الحالي للمحكمة.
الملاحظة الأولى، يبدو أن بلمار يسعى في هذه الفترة لترميم معنوياته بعد الإخفاق الذي مُني به من خلال تحديد موعد جلسة علنية من قبل قاضي الاجراءات التمهيدية
دانيال فرانسين للنظر في طلب مدير عام الأمن العام السابق اللواء الركن جميل السيد، وهو أمرٌ كان قد حاول بلمار منعه من خلال اعتباره أن فرانسين «لا صلاحية
له في النظر بهذا الطلب وأن المحكمة ليست صاحبة اختصاص».
الملاحظة الثانية، وتتعلق بزيارة بلمار إلى واشنطن وقيامه بعدة لقاءات شملت عدداً من المسؤولين في وزارة الخارجية بينهم نائب وزيرة الخارجية لشؤون الشرق الأوسط
جيفري فيلتمان وعدد من المسؤولين الأمنيين في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وحتى الآن لم تتضح طبيعة الزيارة وأهدافها، فهي حكماً ليست متصلة بالسعي
لتأمين موازنة العام المقبل (مؤمنة حتى آذار المقبل على الأقل)، فهذا ليس من اختصاصه بل من اختصاص هيئة المحكمة برئاسة القاضي انطونيو كاسيزي وهي مسؤولية مباشرة
لدى رئيس قلم المحكمة بصفته مسؤولاً عن «إعداد ميزانية المحكمة وعرضها على لجنة الإدارة للموافقة عليها» والتفسير الوحيد الذي يمكن استنتاجه لهذه الزيارة هو
الاستماع إلى إفادات مسؤولين أميركيين وفي مقدمهم جيفري فيلتمان بشأن معطياتهم حيال قضية اغتيال الرئيس الحريري، فضلاً عن سيناريوهات ما بعد صدور القرار الظني.
وهذا بدوره، أن صح، مؤشرٌ لتغليب السياسي على المهني في توليف القرار الظني.
الملاحظة الثالثة، أن تعمّد الإعلان عن حركة بلمار وزياراته الخارجية خلافاً للمبادئ والصلاحيات الممنوحة له بموجب قواعد الإجراءات والإثبات، يطرح علامات استفهام
جدية، فزيارات بلمار خارج اطار عمله كمدعي عام تتضارب مع صلاحيات أشخاص آخرين في المحكمة وفي مقدمهم رئيسها القاضي كاسيزي حيث نصت المادة (32) من قواعد الاجراءات
والاثبات فقرة (واو) على أن الرئيس «يمثل المحكمة في العلاقات الدولية مع الأمم المتحدة والمنظمات الحكومية الدولية الاخرى والدول والمنظمات غير الحكومية» كما
نصت المادة (زين) إلى أن الرئيس يسعى «إلى إبرام اتفاقات تعاون مع الدول وذلك بالتشاور مع مجلس القضاة وعند الاقتضاء، مع المجلس الاعلى للادارة، وعندما يتوصل
إلى اتفاق، يوقع عليه باسم المحكمة بعد التشاور مع الامن العام ومجلس القضاء».
وهو، أي الرئيس، «بالإضافة إلى مهامه القضائية مسؤول عن سير أعمال المحكمة بفعالية، وعن حسن سير العدالة».
الملاحظة الرابعة، تتصل بعدم «حرفية» بلمار في التعامل مع قرار رئيس المحكمة فيما يتعلق بطلب اللواء جميل السيد، فبلمار سخّف مبدأ قبول كاسيزي لطلب السيد، وأسقط
حق القاضي فرانسين في النظر بهذا الطلب وذلك على الرغم من الصلاحيات الواسعة للقاضي فرانسين لا سيما ما نصت عليه المادة 68 (تقديم المدعي العام لقرار الاتهام)
والمادة 86 (منح صفة المتضرر المشارك في الإجراءات) بحيث نصت الفقرة (ألف) «أنه وبعد تصديق قاضي الإجراءات التمهيدية لقرار الاتهام بموجب المادة 68، يجوز للأشخاص
الذين يدّعون بأنهم متضررون نتيجة جريمة تدخل في اختصاص المحكمة الطلب من قاضي الإجراءات التمهيدية منحهم صفة المتضررين المشاركين في الإجراءات عملاً بالمادة
17 من النظام الأساسي».
كما جاء في الفصل الأول من قواعد الإجراءات والإثبات المادة 2 (المعاني) والمتعلقة بتوصيف المصطلحات بأن المتضرر هو «الشخص الطبيعي الذي عانى من ضرر جسدي أو
مادي أو معنوي نتيجة جريمة تدخل اختصاص المحكمة».
لا شك في أن قاضي الإجراءات التمهيدية صاحب سلطة واسعة في تصديق القرار الظني وجعله نافذاً أو رفض القرار بصورة جزئية أو كلية وذلك في ضوء الصلاحيات المنصوص
عليها في البندين (د, و) اللتين نصتا بوضوح على أن يتضمن قرار الاتهام «اسم المشتبه فيه والمعلومات الشخصية عنه وسرداً موجزاً لوقائع القضية والجريمة المنسوبة
إلى المتهم بحيث يدقق قاضي الإجراءات التمهيدية في كل تهمة من التهم الواردة في قرار الاتهام وفي العناصر المؤيدة التي قدّمها المدعي العام ليقرر ما إذا كان
هناك بصورة أولية أدلة كافية لملاحقة المشتبه فيه».
غير أن كل هذه الضوابط تبقى أضعف من قدرة الأجهزة التي خططت لاغتيال الرئيس رفيق الحريري لجهة فبركة أدلّة وتقديمها كأدلة وبراهين ذات صدقية مبدئية لأن التقنيات
التي استخدمت في التنفيذ ليست أصعب من توليد براهين مسبقة لتحقيق الغاية السياسية أولاً وأخيراً.
حكمت عبيد
السفير
No comments:
Post a Comment