كيف ينظر خصوم سيد بعبدا إلى محصلة نصف حياته الرئاسية؟«حـروب» سـليمان الجانبـيـة في جبيـل وكسـروان تفـقـده بريقـه التوافقـي
سليمان (م. ع. م.)
كلير شكر
اليوم، يبلغ عهد الرئيس ميشال سليمان عامه الثالث... أي «نصف حياة» في الرئاسة. تقليدياً، يرتدي هذا النصف «قماشة» الانجازات. حماسة واندفاعة، عادة ما ترفدان
الولاية الرئاسية، بالقوة كي تقدّم أفضل ما عند صاحبها في عز انطلاقتها. هكذا كانت بدايات اميل لحود، الذي كان يضرب، ولو بيد سورية، على طاولة شركائه في السلطة،
احتراماً لمقامه ولكلمته. بركان في أوج ثورته. هي الصورة التي ترسم عن سيّد القصر في شهوره الأولى. في شبابها، مرجعية وطنية، على امتداد الـ10452 كلم، لكل اللبنانيين،
قبل أن تنزوي في شيخوختها، في زاويتها المسيحية بحثاً عن موقع لاحق لها على خريطة طائفتها.
اليوم، تسقط الورقة 1095 من روزنامة سيد «القصر». بينها 318 يوماً من العجز بفعل «داء» تصريف الأعمال، (حكومة فؤاد السنيورة صرّفت 173 يوماً، فيما صار لتربّع
سعد الحريري على كرسي التصريف، حتى الآن، 145 يوماً)، لم تمتص إلّا من رصيد «فخامة الجنرال». أما سجّل حسابات الرئيس الثاني عشر، فيكاد يلامس الدرجة الصفر حسب
خصومه مقارنة بما حظي به تنصيبه من مراسم احتفالية استثنائية من جهة ومن آمال عوّلها اللبنانيون والعالم عليه من جهة ثانية، ليتبين لاحقا أنه «كان الأسرع في
الخروج من مربّع عهده الذهبي» حسب أحد النواب المسيحيين في الأكثرية الجديدة.
أول فرسان الدوحة، «نكّس راياته بسرعة قياسية». يأخذ عليه راصدو حركته، عدم قدرته على تسييل «البونيس» الذي وُضع في محصّلته في أولى سداسية الأيام القطرية (من
16 إلى 22 أيار)، وتحويله إلى «سبائك انجازات» توضع في رصيده. حصان التوافق الذي حمله إلى قصر بعبدا كان من الممكن أن يكرسه زعيماً، أو أقله مرجعية تحفظ للرئاسة
مكانتها، وللرئيس موقعه.
الثلاثية الأولى من العهد السليماني، كان من المنتظر أن تحمل الذخيرة، لزميلتها الثانية: الحاضنة التي تمكنه من الاستثمار في امتحانات الاستحقاقات. ولكن مقتحم
زواريب السياسة، من مدرسة العسكر، قرر السير بالمقلوب: من أول دخوله نزل من عرش الرئاسة إلى أعتاب مقعد اداري أو اختياري أو بلدي أو نيابي وكأنه استعجل الحصاد...
قبل أن يزرع.
ما قبل «عصر الطائف»، يوم كان الرئيس رئيساً بكل ما للكلمة من معنى، كانت ولايته تُجزّأ إلى ثلاثة فصول. الأول يكون بمثابة فترة سماح، يعطى خلالها «فخامته»
من دون سؤال. الثاني يغطس خلاله سيّد القصر في مستنقع المساومات. أما الثالث فهو وداعي الطابع. وإذا ما أسقطنا هذه المعادلة على «العهد السليماني» فيجوز الاستنتاج
أن «رجل بعبدا» وضع في الثلاثي الأول رجله بـ«ثبات» في الفصل الثالث، بشهادة خصومه.
وفق نظرة هؤلاء، فإن عهد «جنرال التوافق» تعرّض للتآكل قبل أن يكتمل نموه، نتيجة افتقاده لأدوات الحكم: لا كتلة نيابية تتلون بلون «القصر»، تدافع عن مواقفه
أو تتبنى وجهة نظهره. أما تجربته الوزارية، فلها قصة تبدأ مع وديعة المتخاصمين، ولا تنتهي مع وزير أثبت جدارته وافتقد لحصانة مرجعيته، مروراً بـ«تِركة العهود»
وما أدراك ما «ويكيليكس» تلك التركة!
في أحد الأيام، همس أحدهم في اذن الرئيس قولاً، إن الياس المر كان سبباً لسقوط عهد سلفه. ردّ «فخامة العماد» بصوت حاسم: «أنا غير اميل لحود». يكفي سرد تلك الواقعة،
لينشرح صدر منتظري سليمان على الكوع، وهم يدللون على «الخطايا» التي ارتكبها بحق ذاته، قبل أن يخطئ الآخرون بحقه وفي طليعتهم ميشال عون.
هي القدرة على صناعة الأفكار وابتكار «اللمعات» التي تميّز رجل السلطة عن قوافل العابرين. فإمّا تنصّبه زعيماً ملاصقاً للتاريخ، أو تتركه حبيس موقعه، اسماً
يمرّ مرور الكرام في «أرشيف الكرسي». يحلو لبعض من عاصروا أكثر من ولاية رئاسية، إجراء المقارنة السريعة بين السلف والخلف: لحود الذي تحصّن بدرع دمشقيّ، فرض
قدرته الذاتية. قال كلمته، وإن استنفرت العداوات أكثر من الصداقات. لكنه لم يصمت. عنوَن عهده بالخيار السوري، ولم يخحل أبداً من «لافتته». وضع رفيق الحريري
في دائرة استهدافه السياسي، ووجه ناسه بهذا الاتجاه. يمكنه المفاخرة أنه على الأقل، يملك شرف محاولة كسر «تابو» الفساد الإداري... وكسر «حُماة هيكله» وأنه لم
يكن طائفيا ولا مناطقيا بدليل بطانة المستشارين من كل الطوائف والمناطق في بعبدا.
في الخامس والعشرين من أيار 2008، سمع اللبنانيون صوت رئيسهم. قبل هذا التاريخ، وحدها صورته تسللت إلى أذهانهم، وما يُنقل عنه أو يقال عنه. انتشوا لخطاب قسم،
تم تنقيحه عشرات المرات، ليخرج بتقنية لغوية عالية، وليتأمل سامعوه خيراً من عسكري جديد خلع بذته ليضع ربطة العنق... ولكنه سرعان ما عاد إلى صومعة السكون.
أصفاد التوافق التي وضعت حول يديّ رئيس عيّن قبل انتخابه في ساحة النجمة، لم تفارقه، ولم ينجح هو في خلعها أو التخلّص منها. إذ أوغل سليمان، وفق خصومه، في حياديته
إلى درجة إلغاء ذاته. وقفز من الحياد الإيجابي إلى الحياد السلبي «من دون أي لون أو نكهة أو رائحة» يقول أحد الخصوم المسيحيين.
لا تقنع حجّة الظروف السياسية الاستثنائية التي عرفها «عهد الدوحة»، من يقفون على ميزان تقييم «نصف الولاية»، مشيرين إلى أن التعقيدات السياسية هي سمة الوضع
في لبنان، على الدوام، ولا يمكن الاختباء خلف أصبع نزاعات البيت الداخلي، لتبرير الشلل في المؤسسة الدستورية الأولى في البلاد. لا بل يركنون إلى «البطن» الذي
حمل سليمان، المؤسسة العسكرية، التي يفترض أنها سلّفته حساباً مفتوحاً، بمقدوره استثماره لتوسيع أرضية بعبدا.
يصب خصوم رئيس الجمهورية كلّ «نقمتهم» في مجرى واحد، ملف إحالة شهود الزور إلى القضاء العدلي. برأيهم، تلك «العورة»، لا يمكن لأي «ورقة تين» أن تسترها. هنا،
يمكن لهم أن يجودوا في سرد الأسباب التي تدفعهم إلى حشر الرئيس في زاوية اللاقرار، الذي لا يحمل في حيثياته أي منفعة وطنية. تماماً كما ترك الساحة اللبنانية
على طاولة القمار الدولي لمن يدفع أكثر. ونزع عن كتفيه خلال الانتخابات النيابية الأخيرة، عباءة المسؤولية الوطنية التي تحتّم عليه عزل لبنان عن بيئة دفع الأموال
ومنطقه الذي استدرج النفوذ الخارجي ووضع البلد في المزاد العلني، مفضّلاً أن يكون شريكاً في «المؤامرة»... لا حكماً.
لا أحد يستطيع النيل من أداء سليمان في موضوع المقاومة، عندما كان قائدا للجيش وخلال الثلاثي الأول. لكن بعض خصومه يسجلون عليه أن أداءه في إدارة ملف سلاح «حزب
الله» لا يتناسب مع ما ورد في خطاب قسمه، «حيث تنازل عن موقعه كـ«ضابط توجيه»، ليتساوى في كرسيه مع بقية مكونات طاولة الحوار».
في السياسة الخارجية، لم ينجح برأيهم، في التفوّق على «السندباد الحريري» المتنقل على «بساط» شبكة علاقات دولية موروثة، بعدما تقمّص دور والده، مستولياً على
الحقيبة الدبلوماسية. ولم يتمكّن من تحضير ملف متكامل لطرحه في المحافل الدولية قد يعوّض غيابه، أو حتى الإطلالة بموقف نوعي من على منبر دولي.
علاقته مع سوريا، تسودها «النقزة» التي لم تسمح له باقتناص موعد على جدول أعمال الرئيس السوري بشار الأسد، على الرغم من تلميح مستشاره النائب السابق ناظم الخوري
بامكان انعقاد قمة لبنانية سورية. أما محاولته الأخيرة للدفاع عن الرئيس الأسد، أو رده على لائحة جيفري فيلتمان ضد سوريا «فلن ترقع»، بنظر الخصوم، «ما أفسده
زمن الانكفاء».
وعليه، يحلو لخصومه عرض عيّنة من التساؤلات: أين هيبة الرئاسة؟ من يدافع عنها؟ ما هي رؤيته لإعادة التوازن إلى السلطة؟ ما هو دوره في حلحلة العقد الحكومية لتسهيل
مهمة نجيب ميقاتي لتشكيل حكومة؟ أليس من واجبه كحام للدستور وساهر على تطبيقه، تقديم كل التنازلات التي تساهم في إحياء السلطة التنفيذية والترفّع عن قاموس الحصص
والمحاصصة؟ ما هو مشروعه للمصالحة المسيحية؟ لماذا فشل الرئيس حيث نجح سيّد بكركي الجديد؟ ألم يكن من واجب الرئاسة الأولى استيعاب التناقضات المارونية واحتضانها
في كنف القصر؟
ضمن «ألف باء» الاستراتيجيات الرئاسية، ألّا يكون هذا الموقع عنواناً لخصومة مع الزعامات المسيحية، التي يفترض أن تشكّل «ظهيرة» الرئاسة الأولى، أقلّه في بداية
مسيرتها السداسية. ولكن «جنرال بعبدا» الذي يتشارك مع «جنرال الرابية» النشأة ذاتها، اختار التصادم مع ابن عائلته العسكرية، مذ أن وطأت رجلاه باحة القصر. وما
كاد سليمان يطفئ شمعته الأولى، حتى كانت حلبة الانتخابات النيابية تجمع «الملاكمين» وجهاً لوجه. أكثر من سياسي نصح رئيس الجمهورية باعتماد استراتيجية معاكسة،
بتقليص المسافات بينه وبين المرجعية التمثيلية للمسيحيين، بهدف الفوز بدعم كتلتها النيابية والوزارية، لتعزيز المواقع المسيحية، وتحسين شروطها، لكنه فضّل سياسة
«المنافسة على المنخار»، بينما كان ميشال عون لم يكن قد «بلع» بعد أن ميشال سليمان «سرق انجاز الحلفاء في 7 أيار» وأنه كان ينبغي أن يكون هناك انقلاب كامل وليس
ربع انقلاب يفضي به سيدا لكرسي بعبدا، ولا يفضي لأحد غيره.
يأخذ الخصوم على سليمان أنه اختار الحروب الجانبية في زواريب جبيل وكسروان، من دون أن يقدّم مشروعاً سياسياً بديلاً يمكّنه من اختراق الشارع المسيحي. اشتغل
على «القطعة». تمسك بشعار تعزيز صلاحيات رئاسة الجمهورية، من دون أن يقدّم طرحاً عملياً لاستعادة هذه الصلاحيات. الترجمة الوحيدة لهذا الخيار كانت الوقوف بوجه
أكبر كتلة مسيحية! اقتحم حلبة صراع الديوك الموارنة، متناسياً أنها كانت سبباً لهلاكهم. فحصر اهتماماته بجبيل وعمشيت والجوار ... وإذا كان أسلافه قد «درّجوا»
عادة «المصاهرة السياسية»، فإن خصومه يأخذون عليه، تحويله «الجمهورية» إلى «ملكية عائلية»: طاولة العائلة «السليمانية» تحتل موقعاً متقدماً في استقبالات القصر
والمناسبات الرسمية التي يستضيفها.
بعد ثلاث سنوات على وضع «النجوم» والثياب المرقطة جانباً، كان يفترض بجردة الرئاسة الأولى أن تملأ عينيّ حسّادها. ولكن هؤلاء يتمتعون بسرد الوقائع التي تدين
«سيّد القصر» لخرقه الحيادية الإيجابية التي يفترض أن تكلّل عهده، وتدفعهم إلى حدّ القول إنه، لو جاهرت بعبدا بخيارها السياسي، لكانت ربحت، بالحد الأدنى، فريقاً
إلى جانبها. لكنّ «وسطيتها المشبوهة» أفقدتها كلّ الأوراق الداعمة.
No comments:
Post a Comment