نعم، ماذا لو لم يكن إلهاً؟
جان عزيز
كان قد مضى نحو تسعين عاماً على سقوط البلاد تحت الاحتلال. ولم يكن ذلك نتيجة هزيمة خارجية، تحت وطأة موازين قوى مختلّة، بل هو اهتراء الداخل، ما فتح الأسوار للغزاة. كان كبير الكهنة إيكران الثاني، ونائبه أريستوبوليس، قد ذهبا في صراعهما مع المتدينين حداً جعل البلاد لقمة سائغة لاجتياح بومبيي الروماني...
وكما كل شعب تحت الاحتلال، كان الناس قد فرزوا: بينهم المقاوم، وبينهم المهادن، بينهم «المتعاون»، وبينهم المستقيل في تسامٍ ذرائعي، لم يكن الدين بعيداً عن تغطياته... وكلهم في سؤال واحد: كيف نحفظ هويتنا، تحت جزمة قيصر؟ كيف نعبر المضيق الجديد، من دون أن نقع في النحر، أو أن نُسقط أنفسنا في الانتحار؟
المؤسسة الدينية، مؤسسة الهيكل، حسمت خيارها، منذ الأيام الأولى للاحتلال، فاختارت أن تغازل روما. كبير الكهنة، حنانا، عقد معها نوعاً من العقد الجهنمي: أنا أغطّي ـــــ بسلطتي على العقول ـــــ احتلالكم، وأنتم تحفظون ـــــ بسلطتكم على الأجساد ـــــ استمرارية ذريّتي في حكم المؤسسة والهيكل... بعده جاء صهره يوسف قيافا خلفاً له، فقونن «العقد»، صار معه عرفاً: الوالي الروماني حاكم زمني، ومجلس الأحبار، أو السنادرين، الذي يرأسه يوسف، حاكم روحي... وقضي الأمر.
في الطرف الآخر، كان دعاة الثورة المسلحة: الغيوريون. في طرف ثالث، وقف الصدوقيون، أصحاب نظرية الواقعية السياسية، لا عمالة، ولا جنون... الفرّيسيون نأوا عن كل ذلك، لجأوا هرباً إلى حرفية الشريعة وظواهرية الطقوس، تطهّراً ذاتياً، كذباً على الذات والناس، باسم مقولة أن الله وحده هو من يعتقنا من كل ظلم وظالم...
ومع الانقسام في الديموغرافيا، كان انقسام مماثل ومطابق في الجغرافيا: السامرة تحذر اليهودية، حتى جعلت جبل إيمانها في مكان آخر، في جرذيم... اليهودية تكفِّر السامرة، وترذل الجليل...
لكن، بين كل هؤلاء، كان ثمة جامعان مشتركان: مؤسسة الهيكل، وإغلاق الدعوة. في الأولى يلتقون، وبالثانية يطمئنون. هكذا، بين رواق سليمان وقوس روبنسون، كانوا يهربون من جبنهم وخطر الموت وتجارب السقوط من كل لون، ليصيروا جماعة واحدة، دعوة ودولة، اجتماعاً وسياسة، وحتى ـــــ لا بل خصوصاً ـــــ اقتصاداً...
«مودوس فيفيندي» عاش طيلة عقود، وأوجد «ستاتوكو» مرضياً لروما، كما لأورشليم، لجشع قيصر، كما لجبن الحبر الأكبر. ستاتوكو، غالباً ما كانت تقضّه أساطير النزعات المسيحانية. في كل مرة يقوم ثائر، أو حالم، أو واهم أو مجنون... يجرّب حظه، قبل أن يسقط. قبل أن يسقطه العقد الجهنمي نفسه. هكذا كان مصير انتفاضة يوضاس الجليلي (غير يهوذا الإسخريوطي) سنة 6م، وهكذا كان مصير الثورة الكبرى بين عامي 66 و70م.، التي انتهت إلى سقوط «الحكم الذاتي» نهائياً على يد تيطس، وتدمير الهيكل، وضمّ اليهودية إلى الحكم الروماني المباشر...
في قلب تلك الحقبة العاصفة، جاء هو. قبله بعامين، قتل يوحنا. مع أن الأخير اكتفى بطقس العماد. قصر نضاله على تلك البرية يصرخ فيها. احترم «المحرمتين»: لم يمس مؤسسة الهيكل، ولم يفتح باب عماده لغير اليهود. غير أن اصطدامه بهيرودوس على خلفية تلك القضية الشخصية، قضى عليه...
بعده بعامين فقط، خرج هو إلى الناس، وسط خوفهم وجبنهم والخنوع. لم يكن فريقه مثالياً لثورته. فنواته ضمت سمعان الغيور، من دعاة الكفاح المسلح، ما يثير السلطة وعسسها. وفيها متّى العشار، جابي الضرائب الشهير، ما لا يشجع عامة الناس على تلك النموذجية. وفيها سمعان بطرس، شقيق أندراوس، ويعقوب بن زبده، شقيق يوحنا، والأربعة من أنسبائه، ما يضيق رقعة «شرعية التمثيل». فضلاً عن طغيان الجليليين: أحد عشر منهم من هناك، في مقابل يوضاس وحده من اليهودية، ما يجعل مهمته في المدينة أكثر صعوبة...
ومع ذلك، بدأ يعدّ للثورة: في السامرة، خطَّ رسالته الأولى. قال للمرأة هناك، إنه قريباً يكون الجميع أمام رب واحد. فضرب الخطين الأحمرين: الهيكل وإغلاقية الدعوة. منها انتقل إلى كفرناحوم، ليتحدى شريعتهم، وجهاً لوجه... عرف نكسة أولى. حتى إن بعض التلامذة تركوه... فسأل الباقين: وأنتم ألا تريدون أن تذهبوا عني أيضاً؟
لكنه لم يتراجع. ذهب إليهم في عيد المظال، فاحتكر معنى موسى والعيد والظمأ. ثم انتقل إلى بيت عنيا، حيث ضرب ضربته الكبرى، مع ألعازار... فأحكم الطوق على المدينة والهيكل، وأنذرهما بالدخول...
يوم وصل خبر ألعازار إلى قيافا، قال كلمته الشهيرة: موت واحد فداءً للشعب، خير لنا من أن تهلك أمة بأسرها...
بعد أيّام انتصروا عليه لحظة. بعد أعوام وقرون وألفيات، انتصر الكل معه، على مدى الزمن...
ماذا لو لم يكن إلهاً حين قام بكل ذلك؟ لاستحق فعلاً أن يُعشق أكثر...
جريدة الاخبار
No comments:
Post a Comment