مقاربة دستورية لدستور الطائف[ (2)
سليم جريصاتي
إن الشوائب ليست فقط في الممارسة الخاطئة والانتقائية او المغرضة للدستور، بل تكمن ايضاً في الدستور ذاته، سيما في الصيغة الراهنة بعد تعديلات 1990 الموصوفة
ظروفها (في الجزء الأول من هذه المقالة المنشور أمس) التي لم تصدر بشأنها أية قوانين تطبيقية تصب في خانة تقليص مساحة العيوب والتناقضات والثغرات، في حال تعذر
التعديل الدستوري.
نكتفي بالاشارة الى بعض مواطن الخلل والزلل، لا سيما بموضوع الدور الرئاسي، كالتالي:
أ - ضرورة إيجاد تحديد دقيق ومفهوم عملي لخروج أي سلطة عن ميثاق العيش المشترك ووسائل توصيف الحالة والتصدّي لها بصورة ناجعة. إن ما شهده لبنان اعتباراً من
11/11/2006 بهذا الخصوص مدعاة للتفكير المليّ بالموضوع والاستئناس بوسائل «الإنهاك الشرعي» التي اعتمدت، على جرأتها ومحدوديتها في آن، لمقاربته ولاستنباط حل
يقضي بإعطاء رئيس الدولة سلطة التصدي لهذه الحالة ومعالجتها بشكل ناجز.
ب - ضرورة تحديد نصاب حضور جميع جلسات مجلس النواب المخصصة لانتخاب رئيس الجمهورية والأكثرية الموصوفة للانتخاب، بالثلثين على الأقل حتماً من عدد الأعضاء الذين
يتألف منهم مجلس النواب وفقاً لقانون انتخابه، وذلك في جميع دورات انتخاب رئيس الجمهورية، ما من شأنه تحصين الموقع من طريق تأمين اوسع توافق نيابي ممكن على
شخص الرئيس.
ج - تقييد رئيس الجمهورية، بخلاف رئيس مجلس الوزراء كما الوزراء، بمهل محددة لإصدار القوانين والمراسيم وطلب نشرها.
د - افتقار رئاسة الجمهورية، وهي رأس السلطات، الى قانون تنظيمي تنهض عنه مؤسسة رئاسة الجمهورية بكيانها المستقل والمتمكّن من الإحاطة بجميع انشطة الدولة وسلطاتها
ومؤسساتها واداراتها وهيئاتها والبرامج والملفات.
هـ - افتقار مجلس الوزراء، الذي ناط به الدستور مجتمعاً السلطة الإجرائية، الى قانون تنظيمي، في حين ان السلطة المشترعة، وهي السلطة الأم في نظامنا الديموقراطي
البرلماني، لها نظامها الداخلي المفصّل بدقة (بالرغم من عدم صدوره بقانون) الذي يواكب عملها ويحل اشكاليات كثيرة كموقع نائب رئيس مجلس النواب ودوره. إن من شأن
هذا النظام الداخلي لمؤسسة مجلس الوزراء، المحصّن بالتشريع، ان يعطي الأجوبة الحاسمة عن التساؤلات المتعلقة بمفهوم التضامن الوزاري، وموقع نائب رئيس مجلس الوزراء
ودوره، والعدد الذي يجب ان يتوافر في الوزراء للتمكّن من طلب عقد جلسة لمجلس الوزراء، وحق الوزير في إدراج المواضيع المتعلقة بوزارته في جدول اعمال المجلس،
والمدى الزمني لتمنّع رئيس مجلس الوزراء او الوزراء المختصين عن توقيع القرارات والمراسيم المتخذة في مجلس الوزراء وتحديد المهلة لاعتبارها نافذة حين انقضائها،
وسواها من المسائل الموضوعية او الإجرائية.
و - غموض آلية الاستشارات النيابية الملزمة التي يسمّي بنتيجتها رئيس الجمهورية رئيس الحكومة المكلّف (مسألة الإلزام بمعرض الاستشارة - مسألة ترك النواب حرية
الاختيار لرئيس الجمهورية - مسألة التشاور مع رئيس مجلس النواب - مسألة تحديد الأكثرية العادية او المطلقة التي يجب ان يحوزها من يكلفه رئيس الجمهوية بتأليف
الحكومة).
ز - تفلت مهل التكليف والتأليف وتصريف الأعمال بالمعنى الضيق من اية ضوابط زمنية، مع الاشارة الى امكانية الاستئناس بما يسمى «المهلة المعقولة» «délai raisonnable»
في القانون الإداري وترك تقديرها الى رئيس الجمهورية.
ح - التباس علاقة رئيس الجمهورية برئيس مجلس الوزراء في أكثر من موقع، وتحديداً حيث ينص الدستور على ممارسة اختصاص معيّن بالاتفاق بينهما، او في معرض آلية وضع
جدول اعمال مجلس الوزراء، وسوى ذلك من المجالات، حيث يلتقي فيها رئيس الدولة برئيس الحكومة لإنتاج القرارات او اتخاذ الإجراءات النافذة. ان عقد المعاهدات الدولية
وابرامها، الذي تخص المادة 52 من الدستور رئيس الدولة بصلاحية تولي العقد، وابرام المعاهدات بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء، قد يكون التعبير الأمثل عن حالة
التخبط التي تشوب هذه «المشاركة التقريرية»، في حين ان هذه الصلاحية هي الصلاحية الوحيدة لرئيس الجمهورية، اذا ما استثنينا اعتماد السفراء وقبول اعتمادهم، في
مجال العلاقات الخارجية للدولة، وهي محفوظة لرأس الهرم في جميع الانظمة الديموقراطية البرلمانية.
ط - عدم الجدوى من صلاحية رئيس الجمهورية بتوجيه رسائل الى مجلس النواب عندما تقتضي الضرورة، في ضوء التجارب السابقة، ما لم تتأسس مفاعيل مكرسة في النص الدستوري
على تلك الخطوة الرئاسية. ان قيام رئيس الجمهورية بممارسة هذه الصلاحية يفيد أن ثمّة امراً جللاً يريد احاطة مجلس النواب به كي يناقشه ويتخذ بشأنه الموقف او
الاجراء او القرار المناسب، وذلك وفقاً للاجراءات المنصوص عنها في المادة 145 من النظام الداخلي للمجلس النيابي.
إلا أن لا شيء يمنع راهناً مجلس النواب من اهمال مثل هذه الرسائل الرئاسية كلياً بمعنى انه غير ملزم على الإطلاق بالأخذ بمضمونها او حتى تظهير موقف او قرار
او اجراء صريح بشأنها. هذا هو المصير الذي رست عليه رسالتان تم توجيههما من رئيسين سابقين للجمهورية الى مجلس النواب:
- الاولى في آذار 1998، عندما دعا المرحوم الرئيس الياس الهراوي مجلس النواب الى مناقشة قانون الزواج المدني الاختياري وقرنه بطلب تأليف الهيئة الوطنية لإلغاء
الطائفية السياسية.
- الثانية في ايار 2005، عندما وجه الرئيس العماد اميل لحود رسالة الى مجلس النواب حضّه فيها على تجاوز قانون الانتخاب لعام 2000 المشوب بأكثر من عيب ووضع قانون
جديد للانتخاب، فتجاهلها مجلس النواب في ضوء اتفاق الموالاة والمعارضة في حينه على اعتماد قانون الـ2000 لانتخابات 2005.
ي - كيف يكون رئيس الدولة هو القائد الأعلى للقوات المسلحة في حين انها تخضع لسلطة مجلس الوزراء؟
ثانياً - المقاربة السياسية:
(...) لعله من المفيد أن نتذكّر جميعاً أنّنا لا نزال نلملم الأبعاد الميثاقية والدستورية لما سُمّي «اتفاق الدوحة»، وهو مجرد تسوية قضى بها التشرذم الوطني،
ولا يحتمل أكثر مما تضمن من جنوح آسر لموقع الرئاسة الأولى، بحيث «أعطي» رئيس الجمهورية «المسمّى» في الدوحة ثلاثة وزراء. هل نستعيد عملية التأطير والتحجيم
بمعرض تأليف الحكومة راهناً او بمعرض الانتخابات النيابية المقبلة بأن نخص رئيس الدولة بعدد من الوزراء او من النواب، اي بحصة تنقص او تزيد عن حصص يتوسلها قادة
التيارات السياسية، فيما رئيس الدولة يعلو السلطات والتيارات، ويركن إليه الجميع تحكيماً له عند الشطط والمضض؟
أكرر تحذيري الى رئيس الجمهورية بأن يدرك منه الطامعون به والمضللون مدركاً خطيراً على موقعه الذي لا يقاس، في ظل الممارسات التي فيها كل العبر وفي ضوء احكام
دستور الطائف، بعدد الحقائب الوزارية او المقاعد النيابية التي لا يمكن ولا يجوز في اي حال اختصار الوطن الذي اؤتمن عليه الرئيس بها. ان ما احرص عليه هو ان
يتمكن رئيس الجمهورية من القيام بالتزاماته الثلاثة التي فرضها عليه دستور الطائف:
1- التزام تجاه الوطن، اذ على رئيس الجمهورية ان يحافظ على استقلال لبنان ووحدته وسلامة اراضيه.
2- التزام تجاه الجمهورية، اذ على رئيس الجمهورية ان يحترم المبادئ والنصوص المدرجة في وثيقة الوفاق الوطني والدستور وقوانين البلاد، ويعمل على ان تحترم جميع
سلطات الدولة ومؤسساتها هذه المبادئ والنصوص.
3- التزام تجاه الشعب، اذ على رئيس الجمهورية ان يسهر على وحدته وعلى انه مصدر السلطات وصاحب السيادة التي يمارسها عبر المؤسسات الدستورية، وعلى عدم فرزه على
اساس اي انتماء كان، وعلى إحلال العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع افراده من دون تمايز او تفضيل، وعلى ان ينعم بالانماء المتوازن في
مناطق وجوده كما بالحريات العامة والخاصة التي يكرسها الدستور وتنصّ عليها القوانين.
اما مقولة ان دستور الطائف، بالإيحاء او المواربة، قد حفظ لرئيس الجمهورية الفطن والكفؤ ان يرفض تأليف حكومة لا يكون له فيها عدد الثلث زائداً واحداً من الوزراء،
الضامن او المعطل لنصاب الانعقاد و/ او اكثرية التصويت على المواضيع الاساسية المحددة في المادة 65 من الدستور، انما هي مقولة لا تستقيم على الإطلاق، ذلك ان
فيها استخفافاً بموقع رئيس الدولة ودوره الى حد الحياء من تكريس صلاحية له في النص الدستوري، كما ان فيها التفافاً على التحكيم الرئاسي، الذي هو سلطة لا تستجدي
او تتوسل سلطة اخرى، كالسلطة الإجرائية التي يرئسها رئيس مجلس الوزراء، ولا يمكن بالتالي ان يكون رئيس الدولة جزءاً منها او عضواً فيها، حتى لو تسنى له ترؤس
جلسات مجلس الوزراء حين حضوره، ذلك انه، في مطلق الأحوال، يشارك في المداولات ولا يصوّت. لا نرى حقيقة أية فائدة من إشراك رئيس الجمهورية في سلطة يرئسها سواه
بقدر ما لا نرى فائدة من اعادة النظر في ترؤس سواه سلطة كهذه!
بصورة اوضح واكثر التصاقاً بالواقع السياسي الطائفي الراهن والانتقالي، ان رئيس الدولة المسيحي، مهما اتسعت او ضاقت رقعة المناصفة او المثالثة ضمن المناصفة
او زاد عدد المسيحيين او نقص او تنامت او تقلصت مساحة انتشارهم او انحسارهم في الوطن او الدولة، يبقى هو دون سواه، المرشد والموجه والحكم الذي لا يقيد تحكيمه
اي قيد، كأن يكون مشاركاً بصورة غير مباشرة في سلطة الاشتراع او سلطة الاجراء، وبالتالي في التجاذبات والاصطفافات السياسية والخلافات المحورية التي قد تنشأ
في البلاد وترتد على تماسك السلطتين المذكورتين وفعالية كل منهما في ممارسة اختصاصه.
عليه، يكون رئيس الجمهورية، في موقعه ودوره، سلطة فوق (وليس «على») جميع السلطات، يتدخل عند الضرورة لفرض احترام الميثاق والدستور وقوانين الأمة وما تمليه المصلحة
العامة.
إن رئيس الجمهورية لن يتمكن من هذين الموقع والدور الا حين ينعتق عن المصالح الفئوية ويركن الى التحكيم الذي نسعى جميعاً ان لا يكون مستمداً فقط من معنويات
الرئاسة او شخصية الرئيس بقدر ما يكون نابعاً من نصوص وضعية او اعراف مكرسة تعطي رئيس الدولة، سلطة تحكيم فعلية في المسائل الكيانية الطابع والوطنية الكبرى.
[ نص محاضرة ألقيت في مركز عصام فارس بتاريخ 3 آذار 2011 حول «دور رئيس الجمهورية في دستور الطائف».
No comments:
Post a Comment