Tuesday, April 26, 2011

جريمة عون الأخيرة
جان عزيز
من آخر الصرعات العُصابيّة «العونيّة» لدى مسيحيّي الحريري هذه الأيام، إلقاؤهم المسؤولية ـــــ مسبقاً وتنبؤاً ـــــ على ميشال عون بالذات، حيال «النكبة» الكبرى التي يرهصون بوقوعها على مسيحيي بلاد الشام، في الآتي من الأيام. حتى إن بعضهم لا يتردد في الذهاب بعيداً في الجزم والتأكيد، أن محلة براد الحلبية السورية، قد تتحوّل، خلال برهة، المحجة التاريخية لمن يريد إضاءة شمعة لذكرى من كان هنا من المسيحيين حتى بداية الألفية الثالثة. شيء ما من النصب الشبيهة بهيروشيما أو ياد فاشيم، قبل أن يتحول آخر «المشرقيين» بحسب رأيهم، بقايا أركيولوجية بائدة، أو في أحسن الأحوال «حارات نصارى»، تعيش على هاجس الحقيبة الموضبة والسمة المنتظَرة أو الموت المحتوم.
تسألهم عن مكمن مسؤولية ميشال عون في ذلك المتوقع وفق حساباتهم، فيأتيك جوابهم جاهزاً معدّاً مدروساً ومفكراً فيه، منذ اندلاع الأحداث في سوريا. يقولون: لقد ارتكب عون جريمة إلصاق صورة مسيحيّي بلاد الشام بصورة نظام الأسد. لقد أوجد هذا التماهي بينهم وبينه، في اللحظة التي سبقت مباشرة الانقلاب على ذلك النظام، وبالتالي عند توقيت تدفيعه ـــــ ومعه المتكهّنون به ـــــ ثمن عقود كاملة مضت.
يسخر مسيحيو الحريري من معادلة عون المعروفة: لقد أغرقنا طيلة عامين بنظرية أنه كمن اشترى أسهماً في بورصة راكدة كاسدة، قبل أن تحلِّق فجأة فيصير من أصحاب الثروات ... عليه الآن أن يكتشف أنه اشترى أسهماً وهمية، أو أسهماً لشركة مفلسة، أو قيد التصفية.
ولا يتورع أصحاب تلك النظرية عن توسيع بيكارها ليشمل وليد جنبلاط أيضاً. ببسمات شامتة يعتقدون أن سيد المختارة يبدو اليوم كعدّاء ماراتون، اجتاز بتفوّق الكيلومترات الأربعين، ليسقط أو يعدو في اتجاه معاكس لخط الوصول، قبل أمتار معدودة من ملامسته. هو أيضاً ألصق صورة الدروز بصورة النظام في دمشق، بحسبهم. لكن مع فارق واضح عن عون: أبو تيمور أدرك، فاستدرك، وها هو يحاول التصحيح على عادته، للمرة الألف، على طريقة الاستدارة الجنبلاطية الشهيرة. مع «توسيع الكوع» إذا ما توفر له الوقت لذلك، أو الدورة الكاملة في «أرضه»، إذا ما اقتضت الضرورة، بمعزل عن رأي منتقد أو مؤيد أو مصاب بدوران.
لكن تركيز الخطاب «التجريمي» لمسيحيي الحريري يظل متمحوراً بنحو رئيسي حول عون. قبل أن يتوِّجوا «مطالعتهم» الادعائية ضده، بكرزة الحلوى المحلية: أما الأشد مدعاة للمأساة، يقولون، فأن تكون السياسة السورية لعون تنذر بتلك النكبة هناك، فيما «التفاهم» الشهير الذي خطَّه هنا، عاجز عن أن يؤمن له حماية عقار صغير من الأرض العائدة ملكيتها مباشرة لبابا الفاتيكان، من مصادرة واحتلال واغتصاب وانتزاع، من قبل الذين تفاهم معهم بالذات، على تخوم دولة «الضاحية ـــــ الأمة».
خطير كلام مسيحيي الحريري هذه الأيام. غير أن أخطر ما فيه هو بَوحُه بالكثير من الحقائق المخبأة. تماماً كمن يشي عبر ما يقوله، بما لا يريد قوله، أو حتى بما يريد إخفاءه وإضماره. حقيقة أولى يكشفها هؤلاء، هي أن عون فعلاً هو الزعيم المسيحي المشرقي، في انطباعات من معه، كما من ضده. وإلا فلماذا القول إن تصرفه السياسي ينسحب على موقف جماعة كاملة، لا في لبنان وحسب، بل خارج لبنان أيضاً، وخصوصاً في خارج يضم من المسيحيين أكثر من مسيحيي لبنان نفسه. هكذا يعترف هؤلاء لخصمهم بموقعه المرجعي، لا بل يكرّسونه له بلا منازع. يكفي الدليل على ذلك، أن أياً منهم لم يفكر، ولا يعتقد أن موقفه السياسي المغاير أو المناقض لموقف عون، قادر على حماية المسيحيين مما يرهصون به وينذرون. كأنهم يؤكدون هامشيتهم، وثانويتهم وانعدام وزنهم، ولو من باب إدانته الافتراضية ليس إلا.
حقيقة أخرى يكشفها كلام هؤلاء، من حيث لا يدرون ولا يريدون، ألا وهي إيحاؤهم بأن نظام الأسد، هو الضمانة لآخر الجماعات ولآخر الحريات الدينية، ولآخر التعددية الممكنة، في كل تلك المنطقة المحيطة بنا. فحين يخشى الحريريون على مسيحيي سوريا بعد بشار، كيف لهم أن يكونوا من الدعاة الى إسقاطه، أو العاملين له، ولو في سرهم، ولو من باب طرح السؤال على سراياهم. والحقيقة الملازمة التي تترافق مع السابقة، اعتراف الخطاب الحريري المسيحي بأن المعارضة الحالية لنظام الأسد، ليست من نوع «الربيع» ولا من فئة «الثورات الملونة» أو الزهرية أو القماشية الناعمة، بل هي حركة ظلامية رجعية ثأرية انتقامية، يخشون منها هم أنفسهم، جرائم الإبادة وحملات التطهير الإتني والجماعاتي.
تبقى حقيقة أخيرة يفضحها هذا الخطاب: أن أصحابه واعون لاحتمائهم في كنف سيف الخلافة، وأنهم بذلك قد اعتمدوا الذمية، لا السياسية منها وحسب، بل الذمية العقيدية الكاملة. رحم الله ابن تيمية، فهو لم يكتشف محاسن ربطة العنق.
العدد 1397
26 نيسان 20111
الاخبار

No comments:

Post a Comment