التبانة تدفع الثمن مجدداً وفاعلياتها تطالب بالتحقيق مع حملة السلاح«المنـازلة الطرابلسـية» تعـزز رصيـد ميقـاتي سـياسـياً وشـعبياً
يجمعون مظاريف الرصاص في التبانة (عمر إبراهيم)
غسان ريفي
وضعت الجولة الخامسة من العنف المسلح بين التبانة وجبل محسن أوزارها، بعدما ألهبت المنطقة وأهلها بفائض من نيران الرصاص والقذائف الصاروخية على مدار 15 ساعة،
وحصدت ما حصدته من خسائر بشرية ومادية جسيمة، وقضت على جهود أكثر من ألف يوم عمل منذ المصالحة قبل سنتين وتسعة أشهر، ليقفل مفتاح الحرب من جديد باب التنمية
والانماء على التبانة وجبل محسن، ويمتد ليقفل أبواب الحركة الاقتصادية والتجارية والسياحية في طرابلس التي عاشت خلال اليومين الماضيين شللا شبه تام دفع بعناصر
مفرزة السير في قوى الامن الداخلي الى التغيب عن تقاطعات شوارع المدينة التي شهدت فوضى في مرور السيارات وإشكالات بين المواطنين.
قد يكون «المصطادون في الماء العكر» ومعهم المستفيدون من إعادة التوتر الأمني الى طرابلس بعد تشكيل الحكومة الميقاتية والحصة الطرابلسية الوازنة فيها، قد حققوا
أهدافهم في الساعات الاولى من المعركة الضارية، فوجهوا رسالتهم الامنية الى «من يهمه الامر»، ونجحوا في إلغاء مهرجان الوزير فيصل كرامي في ساحة كرم القلة، ومن
بعده حفل استقبال رئيس الحكومة نجيب ميقاتي والوزراء الأربعة.
لكن المعركة السياسية التي قادها ميقاتي الذي وفى بوعده القاطع للطرابلسيين بأنه لن يطلع الفجر على المواجهات العسكرية، قد ارتدت سلبا على المتورطين بافتعال
هذه الأحداث، خصوصا أن رئيس الحكومة الموجوع من هذا الجرح النازف والمستمر نجح في «المنازلة الطرابلسية» الاولى، وحسم الأمور على مسارين:
مسار أمني أول لجأ فيه فوراً الى قرار الحسم الذي ترجمه الجيش اللبناني بوحداته المختلفة بانتشار كثيف وإجراءات وتدابير صارمة أعادت الأمور الى نصابها، في حين
جاء بيان قيادة الجيش حول «أن دماء العسكريين والأبرياء لن تذهب هدرا ولن تمر من دون عقاب»، ليؤكد أن جولة العنف الخامسة لن تمر مرور الكرام كسابقاتها، بل ان
تحقيقات جدية ستجري سواء على الصعيد الأمني أو على الصعيد القضائي لكشف المتورطين، خصوصا في ظل الإصرار الذي عبر عنه كثير من فاعليات التبانة وكوادرها الذين
طالبوا الدولة بالكشف عن كل المتورطين بإطلاق النار على المواطنين، مؤكدين أن التبانة وأهلها يرفضون أن تكون منطقتهم صندوق البريد الدائم للرسائل النارية.
والمسار الثاني سياسي وتمثل بالرسالة الواضحة التي وجهها ميقاتي للمعارضة الجديدة، بأن تكون معارضة سلمية وبناءة، وتلاه الوزير محمد الصفدي، وهو الأمر الذي
استدعى استنفارا شاملا من نواب «تيار المستقبل» و«تكتل لبنان أولا» الذين ردوا فرادى، قبل أن يردوا مجموعين عبر اجتماع عقدوه في مكتب التيار في طرابلس وأصدروا
بيانا حاولوا من خلاله إحراج ميقاتي بموقف متقدم «فضفاض» طالب بأن تكون طرابلس منزوعة السلاح، مع العلم أن نزع السلاح يحتاج الى آلية متكاملة لا تزال غير متوفرة،
كما يحتاج الى قرار كبير لا يمكن لأي جهة أن تتحمل تبعاته.
في المحصلة العامة، يمكن القول إن جولة العنف الخامسة، المريبة بتوقيتها ومسارها وغزارة نيرانها ورقعتها الجغرافية، قد حملت انعكاسات سلبية وخطيرة جدا على أكثر
من صعيد: سياسيا، بدا واضحا أن الفرز السياسي الذي شهدته طرابلس منذ تكليف ميقاتي، قد انسحب بعد تشكيل الحكومة والجولة الخامسة بشكل أكثر وضوحا الى التبانة
نفسها، وقد ترجم ذلك أولا بإحجام كثير من المجموعات الشبابية عن حمل السلاح والنزول الى ميدان المواجهات، وثانيا باللقاء الذي عقدته فاعليات التبانة وأعلن المشاركون
فيه صراحة بالانتماء الى تيار ميقاتي، ومن المفترض ان يتوسع هذا اللقاء في الأيام المقبلة ليضم كوادر الوزراء الصفدي وكرامي وأحمد كرامي، الأمر الذي سيعزز حضوره
وقوته وفاعليته ضمن المنطقة.
أمنيا، عادت التبانة لتتصدر الحدث الامني في لبنان، ولتتلقى الاتهامات المختلفة من جهات سياسية عدة، خصوصا في ما يتعلق بانتماءات أبنائها الاصولية، وهي ستشهد
حتما ترددات للجولة الخامسة رغم انتشار الجيش اللبناني، بدأت بوادرها تظهر منذ الليلة الأولى برمي عدد من القنابل في أماكن متفرقة، علما أن غزارة النيران والقذائف
التي شهدتها تؤكد وجود ترسانة من الأسلحة «فوق وتحت»، في حين أن الدماء الغزيرة التي سالت والحصيلة المرتفعة للقتلى والجرحى (6 قتلى واكثر من 70 جريحا) ستؤدي
الى تنامي الحقد إذا لم يصر الى معالجات سريعة على الصعيد الاجتماعي تواكب الحسم الأمني.
اقتصاديا، ما كاد تجار التبانة يستعيدون بعضا من عافيتهم التي فقدوها خلال جولات العنف السابقة والتي دفعت بعضهم الى التفتيش عن مناطق أخرى للعمل، حتى عادوا
الى نقطة الصفر، سواء من خلال الخسائر التي لحقت بالمحال والمؤسسات بفعل المواجهات المسلحة، أو عبر الشلل الاقتصادي بسبب إحجام أبناء الاقضية والمناطق الشمالية
واللبنانية على زيارتها.
إنمائيا، لا شك في أن فترة الهدوء الأمني النسبي الذي شهدته التبانة وجبل محسن، شجعت بعض المؤسسات المحلية والعربية والدولية على القيام بعدد من المشاريع، كان
أبرزها إنشاء أرصفة ووسطيات في شارع سوريا وزراعته بأشجار النخيل، وتنفيذ مشروع إزالة صور الحرب من شارعي سوريا والمهاجرين المتقابلين عبر تأهيل كل الأبنية
الذي أنجز قبل نحو شهرين بتمويل من الصندوق الكويتي للتنمية، ليعود التوتر العسكري ليرسم صورة الحرب من جديد، ولا شك في أن أي مؤسسة دولية كانت أو محلية ستحسب
منذ الآن وصاعدا ألف حساب لجهة تنفيذ أي مشروع ستقيمه في المنطقة إذا لم تحصل على ضمانات جدية هذه المرة بعدم تكرار جولات العنف.
اجتماعيا، وكأنه لا يكفي التبانة ما تعانيه على هذا الصعيد من فقر مدقع وبطالة مستشرية، وتسرب مدرسي، وعمالة أطفال، وتلوث بيئي، وغياب صحي، تصنفها المؤسسات
الدولية على أساسها أنها الأسوأ في الشرق الأوسط، حتى أتت الاشتباكات لتزيد الطين بلة، وتخلف وراءها نزوحا وتشريدا ودمارا، وتعطيلا للمصالح والأعمال، ما سيضاعف
من الأزمات الانسانية والمعيشية وسيجعلها أكثر خطورة.
وفي هذا الاطار، أعطى ميقاتي توجيهاته الى الهيئة العليا للاغاثة للتعويض على المتضررين وعلى عائلات الضحايا، إلا أن تجربة الأهالي لم تكن جيدة مع الهيئة خلال
عهد الرئيس فؤاد السنيورة.
بعد كل ذلك، ثمة سؤال يطرح نفسه اليوم، هل هذه الحلقة الأخيرة من مسلسل باب التبانة ـ جبل محسن أم أنها الحلقة الأولى من مسلسل جديد وبأبطال جدد قد ينتقل الى
مناطق أخرى، ويكون موضوعه كيفية مواجهة ميقاتي والحصة الوزارية الوازنة لمدينته طرابلس ولمنطقة الشمال؟
ثمة إجابتان في هذا الاتجاه، الاولى تؤكد أن ميقاتي أعطى توجيهاته الى الجيش بالضرب بيد من حديد كل من تسول له نفسه العبث مجددا بأمن المواطنين، مهما كانت النتائج.
أما الاجابة الثانية، فتشير الى وجود توجه حكومي حاسم يقضي باجتثاث أزمة التبانة وجبل محسن من جذورها، لكن الآلية في ذلك ستكون قيد الدرس.
No comments:
Post a Comment