رهبان يبلورون أفكاراً حول الدور والموقف من الدولة والأنظمةحتى لا تبهت صورة بكركي الملونة.. نقاشات مسيحية داخلية
دنيز عطالله حداد
في بكركي حراك وورش عمل. يحمل البطريرك بشارة الراعي زخم كل احلامه والمشاريع والطموحات ويندفع لتحقيقها على اكثر من جبهة. وبين تجديد الليتورجيا و«تجديد» اتفاق
الطائف يستعجل الراعي الانجاز. وبين الحدين، شؤون كنسية ووطنية وشجون مسيحية على امتداد العالم العربي.
لا يهدأ صاحب الغبطة. يعطي توجيهاته للمحاكم الروحية. يبدي رعاية للحياة الرهبانية. يناقش في المشاريع الكنسية. يحاور الشباب. يدفع باتجاه اعادة هيكلة المؤسسة
البطريركية ودوائرها. يشدد على الاواصر مع روما محاطا برعاية السفير البابوي واحتضانه. ويندفع الى جمع الساسة الموارنة مبديا تفاؤلا طموحا، بألطف توصيف.
يفعل البطريرك كل ذلك في «فترة سماح» تقليدية. فلا احد، من الاكليروس والعلمانيين، الا ويحرص على ابداء كل «طاعة» واحاطة للبطريرك الجديد. ومع ذلك ففي الوسطين
الكنسي والعلماني أسئلة وهواجس وطموحات وحسابات متداخلة.
للساسة أسئلتهم. «ماذا بعد نقاش ملفي بيع الاراضي واعادة المسيحيين الى الدولة؟ كيف نترجم اتفاقنا ونضعه حيز المعالجة؟ كيف نعيد ترميم الجسور السياسية التي
تكاد تقسم المسيحيين بين محورين متناقضين؟ كيف نعبر من «العام» الجامع شكلا، الى «الخاص» الذي تتداخل فيه الرؤى والمصالح والقناعات؟».
لكن احدا لا يجاهر باسئلته. «فالظروف تسمح بتعبئة الفراغ على كل المستويات السياسية باضفاء بعض من الالوان الى صورة جامعة للمسؤولين الموارنة في بكركي. صورة
مريحة في الشكل وفي الحد الممكن من المضمون» بحسب احد الذين شاركوا في لقاء امس الاول. يضيف «لم نناقش قضايا سياسية واستراتيجية مصيرية. لكننا طرحنا موضوعين
عمليين يسهمان في تعزيز الحضور المسيحي. والاهم ان الصورة عكست تنوع الموارنة سواء في الجغرافية او السياسة ولم تعد تشمل اربعة اقطاب يجددون خلافاتهم وخيباتهم
وصراعاتهم ويختصرون القيادات المارونية».
لكن الصورة اياها التي تترك انطباعا ايجابيا اوليا تصبح باهتة وتفقد مدلولاتها اذا انتهت الى الارشيف والذكرى. لكن السؤال «ماذا بعد؟ كيف يتطور النقاش ويتوسع
من دون ان يتحول شكليا؟ كيف يمكن ادراج الخلافات الجوهرية على طاولة البحث؟ وكيف يستعيد الموارنة القدرة على الاختلاف من دون الاحتكام الى القطيعة والتخوين
والتوتر على الارض»؟
لا تغيب هذه الاسئلة عن بال كثيرين من أهل الاكليروس. يلتقي كثر للتفكير معا والتداول. يطمحون الى بلورة افكار يرفعونها الى سيد بكركي علها تكون مسودة لخارطة
طريق «تعيد بلورة دور المسيحيين ومشروعهم الانساني والحضاري في هذا البلد وفي المنطقة».
يطرح عدد من الرهبان في نقاشهم افكارا متعددة المنطلقات. يسألون عن «قدرة الطبقة السياسية المارونية والمسيحية الحالية على تخطي تاريخ من الانقسامات الصغيرة
والضيقة لتطل منه على غد اكثر توازنا وعدالة؟». يسألون عن «مدى استعداد المسيحيين اليوم، لاسيما الموارنة الى اعادة تبني فكر تنويري واصلاحي ينطلق من لبنان
ليعم المنطقة». اصغرهم، وربما اجرأهم، يقول «يبدو المسيحيون اليوم وكأنهم استقالوا من اية رغبة في المبادرة. وكأنهم يرتاحون للعيش في الظل. ومنهم من لم يتردد
في الجهر بالاستقرار الذي كانوا يعيشون فيه كأهل ذمّة. لذا فمشكلتنا تبدأ باعادة تحفيز المسيحيين انفسهم وتوعيتهم الى رسالتهم ودورهم في منطقتهم».
يشدد الراهب الشاب على الـ«هم» في منطقتهم، ليضيف «نحن معنيون بكل ما يجري من حولنا سواء في لبنان او في المنطقة. نحن ابناء هذه الارض ولسنا طارئين عليها. وليست
فرنسا ولا الولايات المتحدة اقرب الينا من سوريا وفلسطين ومصر والاردن والعراق». يستند الى هذه المقدمة ليضيف «لذا فان كل الانتفاضات في العالم العربي شأن مسيحي.
وكل ثورة شعبية تعنينا من دون حسابات ورهانات مصلحية كانت السبب في تردي حال المسيحيين في لبنان والشرق عموما».
يدافع احد الرهبان عن وجهة نظر اخرى. برأيه «لا يحتاج المسيحيون كل بضع سنوات الى تقديم شهادات في الوطنية والتصدي في مواجهة كل صغيرة او كبيرة في اوطانهم.
لا يحتاجون الى دور ليكونوا موجودين ومن صلب مجتمعاتهم. فوجودهم اصيل وحيوي وتاريخي. ويحق لهم بعد ان كانوا اكثر من دفع اثمان التطوير والتحديث ان يفكروا في
كيفية الحفاظ على وجودهم وتأمين مصالحهم وتجنب مغامرات قاتلة».
لا يشارك غالبية الرهبان المجتمعين حول «الدردشة» زميلهم في مقاربته. ويعلق احدهم «نحن لا نناقش في اهمية الوجود بحد ذاته او في عدم اهميته. لكننا كمجموعة،
كما كأفراد، لا نحقق رسالتنا الا باداء دور نرسمه وطموح نسعى الى تحقيقه. نحن جزء من مجتمعاتنا ومسؤوليتنا ان نشارك ونبني ونطور ونغيّر. فكيف نرضى ان يؤول مصير
الدولة اللبنانية الى هذا المستوى من التآكل والتهالك، وهي دولة استمات اهلنا للوصول اليها؟ كيف ندافع عن خطأ يرتكبه حليفنا سواء كان سنيا او شيعيا؟ اين المفاهيم
التي ربينا عليها وندعي نقلها الى طلابنا في مدارسنا؟» ويضيف «اما على صعيد المنطقة، كيف نفترض ان انتفاضات شباب مصر وسوريا وتونس او اي دولة عربية لا تعنينا؟
كيف نسمح بتصويرنا وكأننا مجموعة منتفعين من فتات انظمة قمعية نسكت عنها في مقابل تحصيل بعض من حقوقنا المشروعة؟».
تكثر مداولات الرهبان واسئلتهم ومناقشاتهم. يعدون ببلورتها ووضعها تحت عناوين مفصلة ورفعها الى البطريركية المارونية «التي تطلب من الجميع تزويدها برؤى وطروحات
تطويرية وتجديدية».
No comments:
Post a Comment