هكذا تحالفت «الاحتكارات» لحماية مكتسباتها... رفضاً لتحرير قطاع الاتصالاتصحناوي «البرجوازي» على خطى نحاس «الشيوعي»: لا للإدارات الرديفة
ايلي الفرزلي
نادراً ما جعل رئيس وزراء من وزير في حكومته عدواً علنياً لا يترك مناسبة إلا ويعبر فيها عن كرهه له. ونادراً ما استطاع وزير أن يفرض إيقاعه على مجلس وزراء يعجز
معظم أعضائه ورئيسه عن مقارعة حجته، إلا بالصراخ. استطاع شربل نحاس بهذا المعنى أن يكون حالة خاصة، أزعجت الأكثرية السابقة من دون أن تطمئن الأكثرية الحالية.
عندما تلا المدير العام لمجلس الوزراء مرسوم الحكومة الجديدة من بعبدا، تضمنت التشكيلة مفاجأتين للعاملين على خطها، وإذا كانت الأولى باتت معروفة وتتعلق بالوزير
القومي، الذي استبدله الرئيس نجيب ميقاتي في اللحظة الأخيرة، فإن المفاجأة الثانية تمثلت باستبدال الحقائب بين غابي ليون ونقولا صحناوي، فحصل الأول على الثقافة
والثاني على الاتصالات. ذلك التبديل كان قراراً ميقاتياً صرفاً، وتردد أنه أزعج العماد ميشال عون وقبله على مضض.
وبرغم أن ميقاتي نجح في إقناع عون بإزاحة نحاس عن وزارة الاتصالات، إلا أن رئيس الحكومة ظل متوجساً من الاسم الذي طرحه عون بديلاً، أي ليون. شعر بأن ذلك الاسم
الذي كان مجهولاً بالنسبة له، قد يكون فخاً يراد منه أن يبقى نحاس (أو باسيل) الممسك الفعلي بوزارة الاتصالات. ووفق مبدأ «لا تنام بين القبور ولا تشوف منامات
وحشة»، جاء بصحناوي ليكون على رأس «وزارة المشاكل».
في خلفية القرار، ربما، أن ابن الأشرفية سليل العائلة البرجوازية وابن المصرفي موريس صحناوي، قد يكون مطمئناً لبيئة الأعمال (القطاع الخاص) التي لم يهدأ لها
بال طيلة فترة تولي نحاس للوزارة.
خلال الأيام الأولى من عمر الحكومة قد يكون من الصعب معرفة، ما إذا نجح ميقاتي فعلاً في إبعاد «الكأس النحاسية» عن وزارة الاتصالات، إلا أن عارفي ابن الأشرفية،
سرعان ما يعلنون: من حسن الحظ.. أن ميقاتي أخطأ في الحســاب هذه المرة.
من قرم إلى نحاس
مصدر ثقة هؤلاء في استكمال صحناوي لمسيرة سلفه، يعود إلى مسيرته «النضالية»، فمذ هرّبه أهله إلى باريس بعد سقوط ميشال عون، تفاديا لأي خطر قد يتهدد ابنهم الشاب،
الذي كان متحمساً لتجربة «الجنرال» المحرمة آنذاك، سرعان ما انخرط في مجموعة عرفت باسم «حركة المواطن»، يقودها (وزير المالية السابق) جورج قرم. وهذه الحركة
تؤكد أن ابن البرجوازية ليس متحمساً لبرجوازيته. وإذا كان مؤيداً لتجربة جورح قرم في باريس، فهو معجب بتجربة شربل نحاس في لبنان.
رغم أن صحناوي لم يشأ الافصاح عن كل مخططاته، في حديث له مع «السفير»، معللاً الأمر بحاجته لبعض الوقت لدراسة ملفات الوزارة، إلا أنه بدا مصراً على متابعة ما
بدأه سلفاه لناحية خفض أسعار الاتصالات وتحسين خدمات الانترنت، إضافة إلى إنجاز ما بدأه نحاس في مسألتي الجيل الثالث والألياف الضوئية، والأهم «مأسسة القطاع
ومحاربة الإدارات الرديفة، استكمالاً لمعركة الاصلاح في كل مفاصل الدولة».
الإدارات الرديفة بالنسبة لوزارة الاتصالات، تعني حكماً هيئة «أوجيرو»، التي خرج نحاس من الوزارة قبل أن ينهي معركته مع رئيسها، وهي معركة لا يبدو أنها ستنتهي
حسب المتابعين، إلا «بانتصار الدولة على الإقطاعيات المالية التي نشأت على ضفافها». ويؤكد هؤلاء أن الجلسة الأولى للحكومة ستتضمن بنداً حول «الوجود غير الشرعي
لرئيس أوجيرو ومديرها العام عبد المنعم يوسف»، الذي لم يعد أحد يستطيع تغطيته في ظل وجود عشرات الدعاوى القضائية ضده، واعتراض ديوان المحاسبة في تقرير رسمي
على استلامه ثلاث مهمات متضاربة، إذ انه بصفته مديراً عاماً للاستثمار والصيانة في وزارة الاتصالات يكون هو المعني بحسب القانون بتكليف نفسه بالمهمات ولكن بصفته
الثانية أي رئيس «أوجيرو»، على أن يقوم بدوره بتكليف نفسه بصفته الثالثة، أي المدير العام لـ«أوجيرو» بتنفيذ هذه المهمات. وهذا الأخير يقوم بعد تنفيذه المهمات
المناطة به بتسليم كشوفاتها إلى نفسه وهكذا دواليك. وهذا كله يضاف إليه انتهاء تكليفه بمهمات رئيس ومدير عام «أوجيرو» منذ العام 2006.
خيار السنيورة
بعد الانتهاء من معركة يوسف، سيكون من السهل إعادة تنظيم وهيكلة «أوجيرو» وقوننتها، بحسب المتابعين، بحيث تصبح خاضعة لمن يكلفها، أي أن تكون الذراع التنفيذية
لوزارة الاتصالات. وعليه تطوى صفحة بدأت في العام 2002، بعدما تكرست وزارة الاتصالات للرئيس اميل لحود بعد إلغاء عقد bot لشركتي الخلوي. وفيما كان الرئيس رفيق
الحريري يحاول لملمة ذيول الخروج من القطاع، مركزاً على ثلاثة هواجس هي التعويضات للمساهمين، بيع الرخص سريعاً، تحويل الأموال إلى الخزينة مباشرة، بعد إنشاء
تركيبة هجينة مبنية على شركتين هما «ميك 1» و«ميك 2»، تملكهما الدولة ويديرهما القطاع الخاص، توصل إلى قناعة تؤكد أن الرئيس فؤاد السنيورة كان على حق، وأن العمل
على الشبك بين القطاعين العام والخاص لم يوصل إلى النتيجة المرجوة، فيما نظرية «القضم» المنظم للقطاع العام تبدو أجدى. ومنذ ذلك الحين بدأ العمل جدياً على تكريس
جمهورية «أوجيرو»، في غفلة عن الوزير جان لوي قرداحي، إلى أن أصبحت تدريجياً هي الوزارة الفعلية.
منذ ذلك التاريخ كل المعدات التي كلفت «اوجيرو» بشرائها وتشغيلها لمصلحة الدولة، سجلت باسم الهيئة لا باسم وزارة الاتصالات، وأبرزها كابل «قدموس»، كابل «آي
مي وي»، الرخصة الثالثة للخلوي (علماً أنه لا شركة في لبنان مسجلة تحت اسم «أوجيرو لبنان»). كما أن عبد المنعم يوسف لم يجد حرجاً في رفض تنفيذ قرارات وزير الوصاية
انطلاقاً من سلطته المستمدة من الامر الواقع. وعلى سبيل المثال، فإن «أوجيرو» ترفض السماح لشركات الانترنت تركيب معدات لتوسع نطاق الخدمات في السنترالات العائدة
للوزارة، كما أنه رغم أن كابل «آي مي وي» البحري قد وصل إلى لبنان في بداية العام، وهو يمكنه أن يزيد سرعات الانترنت نحو ألف مرة، لأن عبد المنعم يوسف رافض
توزيع السعات رغم قرار وزير الاتصالات، واحتفظ بكودات الكابل.
الاقطاعيات الخاصة
معركة شربل نحاس مع «أوجيرو» لم تكن معركة مع شخص أو مع هيئة لا تلتزم قرار مشغلها. القصة تعود إلى يوم استلم نحاس وزارة الاتصالات. حينها حمل مفهوم تحرير الاتصالات
الذي كان يردد مراراً ولا يفهم منه إلا خصخصة القطاع وإنشاء «ليبان تليكوم» ومن ثم بيع 40 بالمئة منها، وقال هذا لا يكفي لتحرير القطاع والمطلوب قبل ذلك إلغاء
الاقطاعيات في القطاع العام (أوجيرو) والقطاع الخاص (شركات الانترنت وخدمات الاتصالات والبث الفضائي، التي نشأت في ظروف معينة عبر رخص مؤقتة تجدد كل سنة، مع
نص واضح بأن هذا الترخيص لا يرتب أي حقوق مكتسبة لصاحب الترخيص).
ورغم كل ما قيل عن معركة نحاس مع «أوجيرو»، إلا أنها بالنهاية لم تكن أكثر من كباش مع جزء من تيار «المستقبل»، فيما الحرب الحقيقية هي تلك التي تطال الاقطاعيات
الخاصة التي تبدو أكثر شراسة وتضم داخل أجنحتها مختلف تلاوين السياسة اللبنانية بجناحيها الموالي والمعارض.
وفيما لقي نحاس العون الكامل من المعارضة السابقة، إضافة إلى دعم ملحوظ من كل المتضررين من «فرعنة» يوسف وسيطرته على السعات الدولية ونهم بعض 14 آذار، فإن الأمر
انقلب رأساً على عقب بمجرد طرحه مسألة الاقطاعيات الخاصة، التي تسيطر على القطاع. هنا جن جنون الجميع وتخوفوا من التعرض لمكتسباتهم، وانتشروا باتجاه مرجعياتهم
وتحديداً: ميشال سليمان، نبيه بري، سعد الحريري، ميشال عون، وليد جنبلاط، إضافة إلى حزب الطاشناق، يحذرون من «هذا الشيوعي المتطرف الذي يريد أن يضرب مصالحنا
ويهدم القطاع الخاص».
ولكن ماذا كان يريد أن يفعل «هذا الشيوعي» حتى حرك وكر الدبابير المالي؟
كان نحاس يعرف أنه ليحرر القطاع لا بد له أن يقبل بتخصيصه. ولكن واجهته مشكلة: كيف يمكنه أن يضمن ألا يتحول التحرير إلى تكريس لاحتكار شركات فرضها الأمر الواقع؟
إلهام ستوكهولم
وجد نحاس بعد زيارة إلى بلدية ستوكهولم أن تحرير الاتصالات ممكن، انطلاقاً من أن كل الناس لها الحق في العمل في القطاع، اعتماداً على مبدأ تكافؤ الفرص. وبحسب
نموذج ستوكهولم، فإن ذلك ممكن عبر خروج الدولة من البيع المباشر، مقابل تملكها كل الشبكات والبنية التحتية والترددات، مقابل بيع حق إنشاء شركة اتصالات، وبذلك
تصبح كل الشركات، صغيرة كانت أم كبيرة، قادرة على الدخول إلى السوق، كل بحسب قدرتها، ولا يكون عليها سوى شراء الحصة التي تريدها من الترددات أو السعات.
بمجرد طرح هذا المشروع، قامت الدنيا ولم تقعد بوجه نحاس، فكشف النقاب عن رغبة مستورة في السيطرة على القطاع عبر احتكارات تمرر تحت عباءة تحرير القطاع، حيناً
أو الشراكة بين القطاعين العام والخاص أحياناً (بعدما سقط الحديث عن الخصخصة بعد الأزمة العالمية في العام 2008).
لم يحقق شربل نحاس مراده، بعدما تكتلت كل العناصر ضده، إلا أن ثمة من يؤكد أن مشروعه لم ينته مع رحيله عن الوزارة. يقال إن صحناوي قد يكون أكثر إصراراً على
المضي قدماً بما بدأه سلفه، فهو على الأقل متحرر من «تهمة» الشيوعي.
No comments:
Post a Comment