Saturday, July 2, 2011

موريس الجميل والموعد الذي لا يفوت


لأنه مستقبلي بامتياز، فالكلام عليه لا يفوت: في العاشر من ايار، كان موعدي معه في الكسليك لاستحضره مع نخبة من السادة. أقعدني المرض، ففاتتني المناسبة، فجئت لأعوض، وفاء له، اضاءة عليه.

على الصعيد الشخصي، كانت يده عليّ سخية: نعمت بجواره عقدا ونصف العقد من الزمن، فنهلت من معينه ما نهلت، وتعلمت ما تعلمت وعلى الأخص: الدأب على المطالعة والتأمل، المنهجية العلمية في الاسناد، وعدم التشيع الا للحقيقة.
كان الرجل في كل ذلك مرجعاً، بما وهب الله وما هو اكتسب. وامّا ما وهبه الله فذكاء متقد وخيال خصب، وقريحة ثرة، ونفاذ صبر وبصيرة. واما ما اكتسب فمن دأب على المطالعة والتأمل والشغف بالجديد والمجاهدة اليومية في الاستنباط، وباقتحامه ابواب العلوم من ابوابها الى محرابها، يتجول بيسر في رحابها، يفقه نواميسها ويعرف كيف يستنفرها ويعبئها متعاونة متضامنة، في تنفيذ المشروع الواحد، ثم كيف يربط بين المشاريع المتعددة لبلوغ الغاية الواحدة. ولذا ترى ان التعريف به من طريق المقارنة مستحيل، لأن امثاله بين من اعرف، ندرة. واما التعريف به بالنقائض، فسهل، لأنه كان النقيض التام لما نعرف من الساسة. وقد لا تنصفه الا اذا تكلمت عليه بالامثلة المبالغة: فهو اذا شئت، العلامة، الطلاع، الشواف، النفّاذ، على ما سيتضح في السياق.
في أوائل الخمسينات، وفي محاضرة له في الندوة اللبنانية، حملت آنذاك عنوان "المؤامرة الكبرى"، كشف موريس الجميل عن العلة التي تكبّل مفاصل الشأن العام في لبنان، وهي الطائفية، وانتهى الى الجزم بانها ليست لوثة تاريخية في اصحاب العائلات الروحية اللبنانية، حلت بفعل معصية تكوينية وتجذّرت في ارحامها. بل رآها مصطنعة، زرعها الاجنبي، بدوله السبع الكبرى، لإفقار لبنان وتفكيك اوصاله، خشية أن تتحول ديناميته المفرطة، بوحدته المتماسكة، خطراً على الرجل المريض تعجّل في انهياره، قبل الاتفاق على حصر ارثه وتوزيع التركة.
الحث على المكاسرة المذهبية، سوّغ لإقطاع الارض، السيادة على الطوائف.
عبر نظام القائمقاميتين، فالمتصرفية، وفي لبنان الموحد بنظامه الطائفي، تعهد الاقطاع المزدوج لهذه الحالة وراح يجهد على ثلاثة خطوط متوازية، لكن ملتقية في الغاية والنتيجة: ترسيخ الاعتقاد، بأن البلاد فقيرة وأن ليس في مواردها ما يكفي لسد حاجات الجميع، وان الرغيف بالتالي يجب أن يبقى بين اللبناننيين موضوع نزاع لا يحسم الا في دواوين السادة.
تعزيز الفساد، ليبقى الواسطة الوحيدة بين الادارة والشعب.
رفع وتيرة الخطاب الطائفي، ليظل الخوف من الآخر قائما، وحمايتهم المزعومة ضرورة وجود.
ويذهب موريس الجميل، الى القول، ان هؤلاء السادة، و إ ن بدوا متخاصمين، فانهم يشكلون حلفاً ضمنياً متماسكاً متضامناً بحكم المصير الواحد والمصلحة الواحدة.
ويخلص الى أن الاصلاح الجذري، يتعذر أن يتم بواسطتهم، ويجب ان يُرنى اليه من طرق اخرى، وان استئصالهم كحروف علة من المعادلة، لا يتم لا بالانقلاب ولا بالتسوية، لأنهما محكومين بالردة، بل بوسائل اكثر جذرية. وإن صعبة، تتصدى مباشرة للسلبيات التي تبني هذه الطبقة عليها، وجودها وبقاءها:
بالانماء لتسفيه مقولة شح موارد البلاد. بالارتقاء، لفضح الادعاء بأن الطائفية معضلة تكوينية، وبانتداب لبنان لادوار اقليمية وعالمية، تضمن حياده، وتجنّبه تدخل الأجنبي لتحريك دُمَاه الداخلية.
في هدفية الانماء كان للجميل عدة مشاريع أولها التصميم الشامل للمياه اللبنانية، ينهد الى مد المساحات المروية وتوليد الطاقة، وبيع الفائض منها الى المحيط. وآخرها المشروع الذي اختزلها جميعها، والذي قررته المنظمات الدولية مجتمعة، بناء لطلبه، في مؤتمر بيت مري المنعقد في 23 و24 تشرين 1969، وهو "لبنان النموذج الانمائي"، كمشروع تجريبي تستوحيه الدول النامية في النهوض من كبواتها. اما على صعيد الارتقاء، فقد هدف موريس الجميل الى الذورة الممنعة، بفعل جاذبيتها الحضارية، وذلك بالصعود الى حال عصية على الاثارات الغريزية وارتداداتها. ولكن وللوصول الى هذه الغاية، يجب ان تُعتمد لغة، وينتج اسلوب، ويتوفر مضمون، ومناخ وانجازات داعمة.
واما اللغة فيجب ان تكون واضحة، لذا يجدر الاتفاق على مصطلحاتها.
واما الاسلوب فيجب ان يكون علمياً، لأن العلم وحده يتمتع بالحيادية، فالأدلجة والمذهبة والمطارحات الكازوستية Casuistique، تقعّر ولا تضيء. واما المضمون فيجب ان يتسم بالمعرفة التامة للموضوع، لأن التفهم والتفاهم على ما دعا اليه بعضهم، لا يتم بدون فهم. وأما المناخ للحوار الوطني الراقي فقد أعد له مشاريع عملاقة اهمها المركز الدولي لعلوم الانسان، ولبنان مدينة الله.
الأول يتخاطب من على منبره المميزون من اساتذة الجامعات الراقية، للافادة مما وصلت اليه من مستوى، وتعميم طلائع ما حققته من كشف. واما الثاني فيقوم على ما اوحته له، لوحة الكوزوميتري، التي وضعها بنفسه، والتي تدل على خطورة العوامل النفسية المرتكزة على الخلفيات الدينية، على مصير البشرية. ويهدف لبنانيا، الى وضع حد للاستثمارات السياسية في معضلة الطائفية، وايجاد منبر تتخاطب به ائمة من منطلق الدل على القيم الدينية المشتركة الخالدة، وتنزيهها من المتاجرة في حوانيت الغرائز والاثارة، وبناء علاقات بينية كتلك التي ربطته بصديق الدراسة الدكتور سليم حيدر.
على صعيد الحياد، ويستثنى منه الصراع العربي الاسرائيلي، فللجميل رزمة من المشاريع العملاقة، لشد الدول الاقليمية والدولية الكبرى، الى الاقتناع بالمصلحة المشتركة بأدوار فذة ينتدب لبنان نفسه لها، تضطر معها الى الاعتراف بحياده، كبحاً لأي تنازع يعطّلها.ففي المجال الاقليمي له مشروع مد انبوب الماء من لبنان الى السعودية، بموازاة انبوب النفط الخام من السعودية الى لبنان. وله، مشروع التمهيد لسوق عربية مشتركة، تبدأ باتحاد حول الطاقة، كما بدأت في أوروبا باتحادي الفحم والفولاذ. يؤمّن للدول العربية طاقة قليلة الكلفة حرية بنهوض اقتصادها، على أساس تنافسية ملاءمة. وأما على الصعيد الدولي، فإلى ما سبق وذكرنا من مشاريع، نضيف مشروع نفق حمانا – البقاع، الذي يسبغ على هذا الاخير قيمة إستراتيجية، إذ يجعل منه نقطة التقاء طرق دولية، ومخزوناً لسلع تتوزع عبرها.
لأن الله أنعم عليه ما أنعم وأترف في نعمه وأفرط، لم ينجُ موريس الجميّل من حسد وغيرة، ولأنه كان تغييرياً جذرياً توجسّه البعض وخافوه، فقاوموا دعوته وناهضوه، بالاستخفاف حيناً، وبالاتهام باللاواقعية حيناً آخر، أو بالتجرؤ على اعتبار عبقريته جنوناً. وعندما دنت منه رئاسة الجمهورية عام 1970، قطعوا عليه الطريق. اغتمّ وغمره الأسى، لا لأنه أخطأ حظوة، بل لأنه خسر فرصة تتيح لنهضة. ومن على خشبة مجلس النواب، حيث كان يلقي خطابه الوصية، خرّ مضرّجاً بأحلامه الخائبة. منذ أوائل الستينات اعتبر الجميّل، ان السياق الطبيعي للسياسات المتبعة سيفضي الى انفجار اجتماعي، يؤدي الى إعلان إفلاس الطبقة المهيمنة. غير انه كان يخشى أن تقوم هذه الأخيرة بعمل استباقي، بتفجير طائفي، يبرر بقاءها سيّدة في خنادق الحماية المزعومة. وهذا ما حصل، فمنذ غيابه راحوا يمدّون الأرض هشيماً، الى أن أضرموها جحيماً. والجميع في ما حصل مسؤول: من افتعَلَ وفعّل، ومن انفعل فسهّل، ومن أهمل وقصّر في الرصد والتوقع درءاً للفتنة. بعد ذلك، تدهورت الحال في لبنان تدهوراً مريعاً.
اليوم من حولنا، ينتشر ربيع مقاوم يتمرّد، لدواعٍ دون الدواعي التي تسببت بها الذهنية السياسية المهيمنة في لبنان. وليس من ينفعل أو من يثور. الكرامة اللبنانية، تعيش في غيبوبة، يستغلها القيمون لتأمين نفوذ ومال وجاه. ولا أقول لتأمين مجد لأن الأمجاد لا تدرك بالأريكة وجرّ الذيل، بل، كما يقول تشرشل، بالعمل الجلل على طريق الواجب. نبالة الخلق ورحابة المعرفة والشغف بالخير العام، روافع لا بد منها، لتقف على المشارف، ومن العلو الأدبي المناسب ترعى شؤون الناس. موريس الجميّل برز في هذا، علماً من الأعلام الثابتة في صواريها، لا تُطوى ولا تُنكَّس ولا يلعب فيها الريح.


نائب سابق ورئيس أسبق
لحزب الكتائب اللبنانية
المحامي منير الحاج

No comments:

Post a Comment