رسالة إلى أبناء وطني من المسيحيين([)
يواكيم مبارك
ان النص التالي الذي كتبه الأب يواكيم مبارك في عام 1969 لم يفقد من بريقه وملاءمته العميقة والدقيقة للظرف الراهن في لبنان. واذ توجّه هذا النص في حينه الى
المسيحيين، فهو يصلح اليوم لمخاطبة هذا الجزء الهام من الرأي العام اللبناني، بمكونّه المسيحي والإسلامي، الذي لا يعي خطورة العداء الكياني المزمن من قبل إسرائيل
تجاه لبنان بتعدديته ووجهه المقاوم ونشاطه الثقافي والفكري والسياسي لاستنهاض العرب، أمام ما يتعرّضون له من انحطاط ووهن في صدّ مشاريع الهيمنة الخارجية على
مقدراتهم وخيراتهم وأراضيهم ومقدساتهم الإسلامية والمسيحية. ولذلك رأينا من المناسب تعريب هذا النصّ المكتوب أساساً باللغة الفرنسية ونشره اليوم، خاصة في الظرف
الدقيق الذي يمرّ به لبنان مرة أخرى في حياته السياسية الهشة وفي خضمّ المواقف الحادة والمتناقضة بين كتلتين سياسيتين يبدو أنّ التوفيق بينهما مستحيل.
أتمتع منذ قرابة عشرين عاماً بضيافةٍ كريمة على أرض لا شيء فيها غريب عنّا، تحت تصرفي وُضعت وسائل عدة للعمل بشكل مفيد، أتحرّج بشدة أن أتوجه إليكم، خلال مرحلة
صعبة من تاريخنا الوطني، وكأني أوبخكم، لا سيما وأنا أعلم صعوبة المعيشة لدى الكثيرين منكم والكفاح اليومي الذي يشترك فيه أخياركم.
لكن تحرّجي كان سيزداد لو لزمت الصمت وأخمدت صرخة ألم تزداد شدةً مع الابتعاد الذي يمنحني إياه مركزي، كمراقب بعيد عن لبنان، متنبّه لتطوره، وراغب في الشهادة
معكم على رسالته في العالم. أكتب إليكم لأخلص ضميري.
إن الأطراف الرئيسية في المصير اللبناني تعبر حالياً عن حرصها على استقلاله وسلامة أراضيه وسلمه. ويبدو لي أنها في الوقت نفسه مهتمة بإظهار حيادية قد تحمي لبنان
من مخاطر كبرى لأنها تخدم أكثر القضية العربية. لكن عندما تغرق في الفاجعة المنطقة الجغرافية الثقافية برمتها التي ينتمي إليها لبنان، سيرون مع ذلك ان بلدنا
في مأمن منها كزهرة في راحة اليد.
لست محترف سياسة، لا في تأهيلي العلمي ولا في مهنتي. لكني مجبر أن أرفض، كرجل دين، أن تدّعي هذه السياسة بطريقة أو بأخرى الانتماء إلى الإنجيل وأن تُشرك المسيحية
في خُطاها.
إن السياسة التي تزعم حماية الطوائف المسيحية في لبنان وطوائفه الإسلامية الأقلية في آن معاً هي محاولة إغواء قبل كل شيء. بل أسمح لنفسي الظن أن الحفاظ على
لبنان يُسمّى حراً، تحت ستار الذود عن المسيحية بل الوفاق بين الطوائف، هو خبث لا يُحتمل. حيث أن هذه السياسة لا تدافع عمن يحتاج الدفاع عنه. إن مسيحيي لبنان
الفقراء مرغمون على مغادرة لبنان. وغالباً ما تقدم الهجرة اللبنانية على أنها تعبير عن روح المغامرة والميل للأعمال لدينا. وهذا ليس على الإطلاق حال من أفكر
بهم والذين يشكلون الأغلبية الساحقة. فبينما يزيد على السكان اللبنانيين الأصليين مئات الألوف من اللاجئين واليد العاملة غير المؤهلة التي تُسخّر بلا رحمة،
فإن مسيحيي لبنان ومسلميه قد انجرفوا في تيار الهجرة، لأن المسؤولين عن لبنان أظهروا عجزهم عن توفير معيشة تليق بهم وحياة كريمة لهم. أما أولئك الذي يبقون في
لبنان مهما بلغ الأمر بهم لتعذر الهجرة عليهم، فإنهم يرضخون حرفياً لنظام من خلاله تستغلهم زمرة من القواد، باستثناء بعض الزعماء الشرفاء، بغية تحسين إرساء
سلطتهم وتنمية ثرواتهم الفاحشة.
لبنان ليس ملجأ
في الواقع، إن مفهوم لبنان كملاذ للطوائف الأقلية، مسيحية كانت أم مسلمة، هو مفهوم قد ولّى عهده. حيث أن لبنان الذي أملى حقيقةً هذه الرسالة في الماضي لم يعد
يمليها أو بحاجة أن يمليها. ولأن لبنان فقد قدرته على تأمين حماية الفقراء وكرامة عيشهم، وجد الفقراء أنفسهم قادرين على تأمين هذه الحماية بأنفسهم والسعي في
سبيل كرامتهم في بلاد أخرى. مع هذا، فإن فقراء الهجرة وأناسها المتواضعين هم خير مستقبل للبنان على مستوى الكرة الأرضية.
بقي لنا أن نعرف إن كان أولئك الذين بقوا في البلد ويتمتعون بإمكانيات كبيرة مستعدّين للرقي بمستقبل لبنان على مستوى العالم العربي. يبدو لي أن هذا واجبنا الأدنى،
إذا كنا على الأقل ندّعي الانتماء إلى الإنجيل ونتباهى باسمنا كمسيحيين. عندئذ، نُستدعى بشكل ملحّ إلى الالتحاق بطريق التضحيات الكبرى.
ولكن أية تضحيات؟
تعاني المنطقة التي ينتمي إليها لبنان من داءَين عظيمين: الاحتلال الصهيوني في فلسطين والتخلف الاقتصادي والاجتماعي.
إن التخلف الاقتصادي والاجتماعي ظاهرة واسعة الانتشار بقدر ما تبدو الصهيونية محصورة مقيدة. وكلاهما أيضاً مفسدان في الأرض. بل هناك في الحقيقة اتصال وتجاذب
بين الظاهرتين. خلال عشرين سنة، سمح النضال ضد الصهيونية للطبقات ذات الامتيازات البقاء في البلاد العربية، بل بتنامي سطوتها وأملاكها.
لكن منذ حزيران 1967، اتضحت الحقيقة بشكل جليّ، ونبّه بروز حركات التحرر، بالرغم من كل التباساتها، إلى ضرورة القيام بواجبَين في وقت واحد: إخلاء فلسطين من
الصهيونية وإرساء العدالة الاجتماعية في العالم العربي.
إن شاء المسيحي اللبناني النضال، فسيكون له أخيراً فرصة القيام بدوره في هذه المنطقة. وعندما يتحرر من الخوف والأنانية على حد سواء، ويتجاوز أخيراً مرحلة التعايش
التي كانت ضرورية للوصول إلى مؤالفة متبادلة، عندئذ، وتحت تأثير الحدث وإثارة مستقبل مثقل، بالرغم من كل شيء، بالوعود أكثر منه بالمخاطر، يحين الوقت للنخبة
المسيحية أن تضع نفسها بثبات في خدمة الجماهير العربية المحرومة. ويحين الوقت للبنان المعروف بالمسيحي أن يسترجع، بانغماره في خضم الجماهير، شبابه وتجدده الإنجيلي.
ولأن قوى الطوائف المسيحية الفاعلة ترفض كل أشكال التشيع والأبوية تماماً كالانطواء على الذات وما يقال له الانفتاح على العالم (في الواقع، الانتماء فقط إلى
الغرب الرأسمالي المنتفع، الذي يدنس ضفافه ويلوث الآن هواء قممه)، حان الوقت لتجنيد هذه القوى المسيحية الفاعلة برمتها ووضع مؤسساتها ليس فقط في خدمة المسيحيين
وحدهم، وإنما خاصة بل قبل كل شيء في خدمة غير المسيحيين. في عصر هذه الكنيسة المسماة مجمعية، الراغبة في أن تكون خادمة فقيرة، نوجه دعوة ملحة إلى كنيسة الله
الموجودة في لبنان لتحقيق هذه الأمنية لمصلحة عموم الناس من غير المسيحيين الذين وقعوا تماماً كفقراء يسوع المسيح تحت سيطرة المحتل الصهيوني والمستبد المحلي
المأجور للقوى الأجنبية.
عروبة ومقاومة
وبوسعنا أن نضع هذا الاستعداد لكنيسة الشرق الأوسط تحت شعار العروبة، وفق المعايير التالية.
1. من يقول عروبة (arabité) يرفض العرباوية (arabisme). حيث أن العروبة وحدها الصحيحة. لأن العرباوية بالأحرى نقل منمّط وخاطئ لكلمة أعرابية بطابع بدوي، تُهدم
بجهلها المدينة المنورة التي أرساها النبي وتقضي على عموم المستضعفين. أرفض إذاً استخدام كملة العرباوية المذكرة والفظّة، كلمة تفتقر إلى البصيرة ويطغى عليها
الطابع العنصري، وأشيد بالعروبة المؤنثة كقوة لقاء واتحاد تنبسط دون أية تفرقة وتمييز على مجمل العالم العربي وسكانه.
2. يضاف إلى هذه العروبة عنصران أساسيان، دينيان وثقافيان، ضروريان للبنان، العنصر الإسلامي والعنصر المسيحي. فإلى المسلمين يرجع عناء معرفة بم يحتاجون إلى
المسيحيين لتشكيل أمة المؤمنين التي نادى بها القرآن. لكن على المسيحيين ألا ينتظروا أكثر لاعتبار أنفسهم مسؤولين عن الدفع بهذه الطائفة، على قدم المساواة مع
المسلمين وبصرف النظر عن كل تقويم رقمي، بهدف الإجابة سوياً على عدد من الوصايا العظمى المتعلقة بالمصير السياسي والاجتماعي لبلاد الرسالة السماوية.
3. والوصية الأكثر إلحاحاً، ضمن احترام اليهودية والبحث عن سبل الاتفاق معها تكمل الاتفاق الاسلامي المسيحي، هو إزالة الصهيونية عن فلسطين. ويجب أن تتم إزالة
الصهيونية باسم الدين اليهودي، الوفي لرسالة أنبياء الكتاب المقدس، وباسم وصايا القرآن العليا فيما يتعلق بالإرث الإبراهيمي، ناهيك عن الانقلاب الجذري في الأهداف،
الذي أحدثه الإنجيل والقديس بولس، والمتعلقة بالميعاد والأرض المقدسة.
4. إن الالتزام الصادق بالعروبة يتطلب في آن واحد تحرير المجتمعات المسيحية والإسلامية المتدرج من التأثير الطائفي ومن كل آثار الأنظمة الدينية البالية، لتتطور
نحو نموذج مجتمعاتي ديموقراطي متساوٍ، يؤمن للجميع الحقوق والآمال نفسهما. لذلك حري بالمجتمعات ذات الطابع المقدس التي ترفع المؤمن إلى مستوى أعلى ألا تتدخل
بعد اليوم في شؤون المواطن، بل أن تلهم المجتمع الزمني وتدعمه في سيره نحو العدالة.
5. إن إرساء العدالة الاجتماعية يجب أن يتم على مستويين: بالتزامن مع الإصلاح الزراعي الذي ينبغي من أجله أن تأخذ المؤسسات الدينية زمام المبادرة، وبانتظار
إرسائها، تدعو للمشاركة في المشاريع الكبرى والموارد المعدنية، ضمن احترام الحقوق الشرعية، لكن بطريقة يحصل فيها عامة الناس وبلا إبطاء على حقهم في التعليم
والصحة والعمل والكرامة. ومع هذا، يجب القيام بدعوة موازية على مستوى الحياة الروحية التي طبعت بعمق منذ البدء البلاد المعروفة ببلاد الرسالة السماوية لتشعّ
منها على بقية العالم.
6. إن العلامة الأساسية التي يجب أن يواجه بها لبنان العالم العربي بأسره هي التعددية، وذلك ضمن احترام التنوعات الوطنية والإتنية والدينية والثقافية، فتعزز
بذلك استقلالية كل بلد في حدوده الطبيعية، وتؤمن لكل مجتمع متميز داخل البلد نفسه ممارسته التامة لحقه في العيش والازدهار وفق تقاليده الخاصة به. لكن يجب أن
تُقوّم التعددية نوعاً ما بالمسكونية التي تقود التنوعات إلى نقطة التقاء تسمو بها نحو الوحدة، مسكونية في حضن التسميات الكبرى تشدّ أواصر الطوائف التي تؤلفها
وتخفف من نزاعاتها، مسكونية بين التسميات الكبرى ذاتها.
7. إن العروبة هي الشكل الثقافي الذي يأخذه هذا السعي نحو المسكونية، حيث أن المسيحيين واليهود، تماماً كالمسلمين، وجدوا في اللغة العربية، بين بغداد وقرطبة،
التعبير الأمثل عن فكرهم الديني. فباللغة العربية عبّر اليهود والمسيحيون في هذه المنطقة الجغرافية الثقافية بالطريقة الأنسب عن إيمان كل منهم منذ القرن الثامن
إلى يومنا هذا، وذلك دون التخلي عن لغات أخرى على علاقة بأصولهم، تماماً كالبيئة الفلسفية والدينية للإسلام. وضمن احترام وتطوير اللغات الأخوات في السامية الروحية،
العبرية والسريانية، وكذلك اليونانية، المنهل المشترك للفكر الاستدلالي والتقدم العلمي، ينبغي أن تحظى اللغة العربية بالتفضيل لدى الجميع للتعبير بها عن الإيمان
والثقافة، دون إنكار مساهمات اللغات المحلية أو الدولية التي تداولتها هذه الفئة أو تلك من الناس. في هذا الصدد، تمثل ظاهرة الفرانكفونية الجديدة عاملاً أساسياً،
ليس فقط في لبنان، بل في مصر وإفريقيا الشمالية، في تشجيع العروبة وإدماجها الإيجابي في العالم المعاصر.
8. على الأجيال الراشدة أن تُوجه إلى الشباب ليس جل أنظارها فحسب، بل يجب أن تتنحى عاجلاً عن مكانها، في عالم يهيمن فيه الآباء على أطفالهم. ففي تقديم عمر التقاعد،
يتقدم في الوقت نفسه تسلّم الشباب للمسؤوليات الرفيعة المستوى، على الأقل في المؤسسات التي يتواجد فيها المعنيون بالأمر. إن مبدأ الاشتراك يجب أن يطبق بكامله
في الجامعة ودون تأخير.
9. إن موجة العنف في مجتمعات العالم العربي خطرٌ يوازي بكبره سيطرة بعض الطبقات العسكرية. لذلك من الضروري الوقاية من هذا الخطر وذاك عن طريق عدم تسييس الجيوش
ودمج قوى المقاومة في الشعب. في الواقع، يجب أن يُجرّ الشعب بكامله إلى المقاومة، من خلال تدريب مدني وسياسي ملائم، بحيث لن تستند ثقة الشعوب العربية على ثروة
السلاح ولكن، على غرار الهند في عصر غاندي أو أميركا في عصر مارتين لوثر كينغ، على قرارات العقول والقلوب التي لا رجعة فيها. ومع هذا، فإن نشوء مقاومة مسلحة
عند مظلومي الأرض ومستضعفيها حركةٌ لا يمكن فيها للضمير المسيحي أن يكون حراً. فأياً كانت أخطاء المقاومة المسلحة ومقاصدها المبالغ فيها وتزييفها المخزي، إن
حرية الضمير المسيحي ليست أكبر من حريته أمام الحروب ذات الطابع الكلاسيكي والتي تورّط فيها لمرة أخرى منذ وقت قريب جداً. إن نشوء حركة المقاومة هو بذاته الظاهرة
الأساسية التي تستجدي حالياً ضمير المسيحيين. فإن كان لا بدّ لكل منا أن يقدّم إجابة شخصية تتلاءم مع رسالته، وإن كان من الضروري لكل بلد أن يحتفظ بكامل حريته
حيال أشكال المقاومة كافة، فما من أحد يمكنه إعفاء نفسه من الاهتمام بقضية الفدائيين وعدم الالتزام بنضالهم العادل. فمن واجب الكنائس، بعد أن تعفي الدول من
تدخلاتها الفضولية والتزاماتها التي لا تُتخذ دون المجازفة بالسلام على المستوى الدولي، أن تدعم حركات المقاومة الجديرة بهذا الاسم، عن طريق توضيحها للرأي العالمي
نشأة هذه الحركات تحت وطأة الظلم التي لا تطاق وكملجأ أخير لا مفر منه لإنصاف المظلومين. ومن واجب الكنائس كذلك أن تظهر أن برنامج حركة التحرير الفلسطينية الموصي
بإقامة دولة فلسطين على أسس ديموقراطية وعادلة بين اليهود والمسلمين والمسيحيين هي، على المستوى القصير والبعيد، المخرج الوحيد والدائم لحل الصراع.
10. لقد وجدت العروبة في مجرى التاريخ مراكز زخم في العديد من المدن. ولا تزال الحال كذلك في الوقت الحاضر. لكن نقطة الجذب الوحيدة التي يمكن للعروبة أن تتعرف
عليها هي القدس لا غير. وهذا أمر ينبغي ألا يكون فيه أدنى شك بالنسبة للمسيحي اللبناني، بقدر ما تبدو التكاملية التوراتية بين لبنان وفلسطين جلية، تحت شعار
أرض مقدسة واحدة، معروفة على جانبي موطن الأمم، الجليل، بعروس التراتيل. بل أن كل مسيحي في العالم العربي يجد في القدس ملتقاه بكل مؤمن بإله واحد. لكن في جميع
الأحوال، وفي القدس، بعد أن تتحرر اليهودية من تورطها في النكبة الأخيرة التي قام بها الاستعمار العسكري، ينبغي أن يستدعي ائتلاف إسلامي مسيحي، تحت شعار العروبة،
أوسع مسكونية وأحفاها على الإطلاق. العام المقبل في القدس.
[ حررت الرسالة بين أيار وحزيران 1969 في لحظة كان يعيش فيها لحظة عصيبة.
ترجمة الدكتورة سلام دياب
السفير
No comments:
Post a Comment