إلّا من رحم ربّك
فداء عيتاني
العديد من الشخصيات السياسيّة والإسلاميّة في عاصمة الشمال يتحسّسون من التسوية، فيما يؤكد بعضهم لأنفسهم أن لا تسوية في الأفق، وأن رئيس الحكومة سعد الحريري، في زيارته نيويورك، سيرفض التخلّي عن المحكمة الدولية، وعن شعار العدالة، وهم لمزيد من طمأنة النفس يردّدون: «وماذا سيحصّل رئيس حكومة لبنان من الطرف الآخر إذا ما قرر الموافقة على أي تسوية؟». ويجيبون: «الطرف الآخر لا يوافق على التنازل عن أي شيء، بل يطلب من سعد الحريري وحده التنازل».
منطق لا يصعب نقاشه، وخصوصاً إذا ما قرأ أي سياسي مبتدئ موازين القوى بقليل من الموضوعية، لكن هؤلاء يفضّلون إما الغرق في المخاوف والهواجس وإما طمأنة أنفسهم مع اشتراك الذين ينتهجون أيّاً من الأسلوبين في محاولة فتح الأبواب مع العاصمة السورية دمشق، أو مع ضباط الاستخبارات الإقليميين، وبعض من امتنع الضباط هؤلاء عن استقبالهم لا يزال يردد أنه يزورهم أسبوعياً، وأنّ الأمور تسير من جيّد الى الأفضل، بينما هؤلاء أنفسهم يتحدثون في العلن عن مواقف الرئيس سعد الحريري الرافضة لأية تسوية، ونقاط القوة التي يملكها الرجل، والهلع الذي يثيره في أنفس أخصامه هنا، وفي المحيط.
لوحة يمكن أن تكون كوميدية لو لا أن البعض وصل إلى حد الإفلاس المالي من وراء رهانات سياسية خاطئة، فبعض الجمعيات السلفية أغلقت عدداً من المؤسسات التي كانت تديرها بعدما توقف الدعم المالي، ووصل الأمر ببعضهم إلى حد طلب مقابلة صحافيين مقربين من تيار المستقبل لإبداء عسر الحال، وتعثّر الأعمال.
وكانت قوى إسلامية وسلفية عديدة في الشمال قد اعتمدت قراءة سياسية تفيد بأنها هي العصا التي يعتمدها تيار المستقبل (ومن خلفه في مرحلة ماضية المملكة العربية السعودية) لإخافة الخصم السياسي، وبالغ البعض في توهم أهمية دوره الى الحد الذي رأى فيه أنه يخيف أيضاً النظام السوري.
وقرر هؤلاء أن التهديد الذي يمثّلونه لحزب الله سيكون جزءاً من أية معادلة استراتيجية تأتي بها المرحلة المقبلة على البلاد، وأنّ دورهم محفوظ في أية تسويات داخلية، وهي التسويات التي لن تأتي إلا على هزيمة الطرف الآخر، أي قوى الثامن من آذار وداعميها الخارجيين،
وصولاً إلى دخول القيادي الإسلامي كنعان ناجي الى حد تنظيم مهرجانات لمصلحة تيار المستقبل، وكان آخرها هو مهرجان النائب محمد كبارة والشيخ داعي الإسلام الشهال، حيث هدد أبو العبد كبارة بقطع الإصبع التي ترفع بوجه تيار المستقبل وقيادته (أي إصبع الأمين العام لحزب الله)، قبل أن يرسل كبارة رسالة نحو سوريا وحزب الله بأن هذا الكلام هدفه «امتصاص النقمة في الشارع وليس تصعيد التوتر الداخلي».
لحسن الحظ أن بين القوى الإسلامية والسلفية في الشمال من هم أكثر رصانة من أن يلاقوا تنظيم القاعدة لفظياً، ويتبعوا تيار المستقبل عملياً، او يلتحفوا بالعباءة الأمنيّة لكنعان ناجي، أو يتلقّوا دعماً من مصر، أو سمير جعجع، بعدما أعادت جهات فاعلة في المملكة العربية السعودية الكثير من حساباتها وجمّدت عدداً من مشاريعها القديمة.
لحسن الحظ أن في عاصمة الشمال وفي أطرافه قوى سلفية أخرى، لديها قراءة أكثر واقعيةً للمعطى السياسي المحلّي، وللعقيدة الإسلامية نفسها، يجعلها تمثّل أملاً وملاذاً للعديد من الشبان المؤمنين، الذين تضيق بهم الخيارات في الحياة القاسية التي يعيشونها، ما بين اضطهاد اقتصادي واجتماعي، ونفسي، وملاحقات أمنية، وبين جمعيات تحرضهم، وتدفع بهم وقوداً للصراعات الداخلية، ثم تتركهم، بعد أن يكتشف القيّمون عليها أنهم هم أنفسهم، بصفتهم قادة إسلاميين، ليسوا أكثر من أرقام صغيرة في لائحة هاتف جهاز أمني فرعي في يد زعيم الطائفة السنية.
زعيم الطائفة السنية هو من حارب منذ بزغ هذا المشروع الى النور (في عام 2009) أي إمكانية للحوار بين السلفيين وخبراء في الإسلاميات ودار الفتوى، مما أجهض المشروع الذي كان يمكن أن تقوده جهات دولية محايدة، ودفع بالمئات من الشبان إلى أحضان بعض السلفيين الذين يتبنّون الجهادية لفظاً، ويوظفونها في النزاع المحلي اللبناني، حتى عُدت في نهاية الأمر كلمة «إسلامي» تهمة يمكن أن تزجّ بالشبان في السجن، ويتركوا لأعوام قبل أن يُنظر في قضاياهم ويحوّلوا الى المحكمة. بعض السلفيين يصنفون أنفسهم «سلفيين علميين متقدمين» يمارسون العمل تحت ظل الأنظمة التي يعيشون في كنفها، ولو كانت غير إسلامية، ويرفضون استخدام العنف وسيلة للتغيير، ويتمتعون بعلاقات مع كل الطوائف والفئات، ويبدو أن هؤلاء وحدهم هم «إلّا من رحم ربّك».
العدد ١٣٠٤ الجمعة ٣١ كانون الأول ٢٠١٠
الاخبار
إلّا من رحم ربّك
فداء عيتاني
العديد من الشخصيات السياسيّة والإسلاميّة في عاصمة الشمال يتحسّسون من التسوية، فيما يؤكد بعضهم لأنفسهم أن لا تسوية في الأفق، وأن رئيس الحكومة سعد الحريري، في زيارته نيويورك، سيرفض التخلّي عن المحكمة الدولية، وعن شعار العدالة، وهم لمزيد من طمأنة النفس يردّدون: «وماذا سيحصّل رئيس حكومة لبنان من الطرف الآخر إذا ما قرر الموافقة على أي تسوية؟». ويجيبون: «الطرف الآخر لا يوافق على التنازل عن أي شيء، بل يطلب من سعد الحريري وحده التنازل».
منطق لا يصعب نقاشه، وخصوصاً إذا ما قرأ أي سياسي مبتدئ موازين القوى بقليل من الموضوعية، لكن هؤلاء يفضّلون إما الغرق في المخاوف والهواجس وإما طمأنة أنفسهم مع اشتراك الذين ينتهجون أيّاً من الأسلوبين في محاولة فتح الأبواب مع العاصمة السورية دمشق، أو مع ضباط الاستخبارات الإقليميين، وبعض من امتنع الضباط هؤلاء عن استقبالهم لا يزال يردد أنه يزورهم أسبوعياً، وأنّ الأمور تسير من جيّد الى الأفضل، بينما هؤلاء أنفسهم يتحدثون في العلن عن مواقف الرئيس سعد الحريري الرافضة لأية تسوية، ونقاط القوة التي يملكها الرجل، والهلع الذي يثيره في أنفس أخصامه هنا، وفي المحيط.
لوحة يمكن أن تكون كوميدية لو لا أن البعض وصل إلى حد الإفلاس المالي من وراء رهانات سياسية خاطئة، فبعض الجمعيات السلفية أغلقت عدداً من المؤسسات التي كانت تديرها بعدما توقف الدعم المالي، ووصل الأمر ببعضهم إلى حد طلب مقابلة صحافيين مقربين من تيار المستقبل لإبداء عسر الحال، وتعثّر الأعمال.
وكانت قوى إسلامية وسلفية عديدة في الشمال قد اعتمدت قراءة سياسية تفيد بأنها هي العصا التي يعتمدها تيار المستقبل (ومن خلفه في مرحلة ماضية المملكة العربية السعودية) لإخافة الخصم السياسي، وبالغ البعض في توهم أهمية دوره الى الحد الذي رأى فيه أنه يخيف أيضاً النظام السوري.
وقرر هؤلاء أن التهديد الذي يمثّلونه لحزب الله سيكون جزءاً من أية معادلة استراتيجية تأتي بها المرحلة المقبلة على البلاد، وأنّ دورهم محفوظ في أية تسويات داخلية، وهي التسويات التي لن تأتي إلا على هزيمة الطرف الآخر، أي قوى الثامن من آذار وداعميها الخارجيين،
وصولاً إلى دخول القيادي الإسلامي كنعان ناجي الى حد تنظيم مهرجانات لمصلحة تيار المستقبل، وكان آخرها هو مهرجان النائب محمد كبارة والشيخ داعي الإسلام الشهال، حيث هدد أبو العبد كبارة بقطع الإصبع التي ترفع بوجه تيار المستقبل وقيادته (أي إصبع الأمين العام لحزب الله)، قبل أن يرسل كبارة رسالة نحو سوريا وحزب الله بأن هذا الكلام هدفه «امتصاص النقمة في الشارع وليس تصعيد التوتر الداخلي».
لحسن الحظ أن بين القوى الإسلامية والسلفية في الشمال من هم أكثر رصانة من أن يلاقوا تنظيم القاعدة لفظياً، ويتبعوا تيار المستقبل عملياً، او يلتحفوا بالعباءة الأمنيّة لكنعان ناجي، أو يتلقّوا دعماً من مصر، أو سمير جعجع، بعدما أعادت جهات فاعلة في المملكة العربية السعودية الكثير من حساباتها وجمّدت عدداً من مشاريعها القديمة.
لحسن الحظ أن في عاصمة الشمال وفي أطرافه قوى سلفية أخرى، لديها قراءة أكثر واقعيةً للمعطى السياسي المحلّي، وللعقيدة الإسلامية نفسها، يجعلها تمثّل أملاً وملاذاً للعديد من الشبان المؤمنين، الذين تضيق بهم الخيارات في الحياة القاسية التي يعيشونها، ما بين اضطهاد اقتصادي واجتماعي، ونفسي، وملاحقات أمنية، وبين جمعيات تحرضهم، وتدفع بهم وقوداً للصراعات الداخلية، ثم تتركهم، بعد أن يكتشف القيّمون عليها أنهم هم أنفسهم، بصفتهم قادة إسلاميين، ليسوا أكثر من أرقام صغيرة في لائحة هاتف جهاز أمني فرعي في يد زعيم الطائفة السنية.
زعيم الطائفة السنية هو من حارب منذ بزغ هذا المشروع الى النور (في عام 2009) أي إمكانية للحوار بين السلفيين وخبراء في الإسلاميات ودار الفتوى، مما أجهض المشروع الذي كان يمكن أن تقوده جهات دولية محايدة، ودفع بالمئات من الشبان إلى أحضان بعض السلفيين الذين يتبنّون الجهادية لفظاً، ويوظفونها في النزاع المحلي اللبناني، حتى عُدت في نهاية الأمر كلمة «إسلامي» تهمة يمكن أن تزجّ بالشبان في السجن، ويتركوا لأعوام قبل أن يُنظر في قضاياهم ويحوّلوا الى المحكمة. بعض السلفيين يصنفون أنفسهم «سلفيين علميين متقدمين» يمارسون العمل تحت ظل الأنظمة التي يعيشون في كنفها، ولو كانت غير إسلامية، ويرفضون استخدام العنف وسيلة للتغيير، ويتمتعون بعلاقات مع كل الطوائف والفئات، ويبدو أن هؤلاء وحدهم هم «إلّا من رحم ربّك».
العدد ١٣٠٤ الجمعة ٣١ كانون الأول ٢٠١٠
الاخبار
No comments:
Post a Comment