Saturday, March 20, 2010

الخوف من العلمانية

كرم الحلو

يتوسل أطراف السجال السياسي الراهن في لبنان البلاغة اللفظية والجدلية والالتباس المفهومي للتغطية على مواقفهم الحقيقية بصدد إلغاء الطائفية السياسية، تجنباً
للأسئلة المربكة التي قد تطرحها هذه المقولة الملتبسة. فما المقصود بإلغاء الطائفية السياسية؟ ما شكله ومضمونه وانعكاساته على الصيغة الميثاقية اللبنانية وأثره
في اختلالها؟ أي وجه من وجوه السياسة سيطاوله الإلغاء؟ هل هو المناصب العليا في الدولة والمؤسسات العامة أم بنية الدولة بالكامل من الرأس إلى القاعدة؟ ومن أين
يبدأ الإلغاء ومن سيبدأه وكيف؟ وهل مؤدّاه انقلاب في التركيبة الطائفية اللبنانية أم التقدم في اتجاه العلمانية بكل ما تعنيه من تغيير جذري في الحكم والتشريع
والعلاقات المجتمعية والسياسية؟
وجه الإشكال في كل ذلك في رأينا، أن لا الذين يؤيدون ولا الذين يرفضون إلغاء الطائفية السياسية يريدون السير في الاتجاه الحداثي، بل جل ما يبتغونه توليفة بائسة
بين الفضاء الحداثي والفضاء القروسطي القائم على تسويات مؤقتة بين الطوائف والملل، توليفة ثبت عقمها وإخفاقها كما أفاد تاريخ نهضتنا العربية الحديثة، إذ ثمة
قطيعة كبرى تفصل بين هذين الفضاءين المختلفين في التوجهات والتطلعات والخلفية الإيديولوجية والفلسفية.
الحداثة ترفض التمييز بين الناس، ولا تعترف إلا بالإنسان وحقوقه الطبيعية أساساً لأي قانون أو تشريع، ولا تقر بأية مرجعية خارجة عنه تتجاوزه وتتعالى عليه. وقد
اقتضى مرور التاريخ الإنساني بمخاضات طويلة وعسيرة قبل أن يتكرّس الإنسان مرجعية أولى ومركزية لتدبير شؤونه السياسية والاجتماعية، وكي تُعتمد الديموقراطية الليبرالية
خياراً أساسياً في الوجود الاجتماعي. بينما الإنسان في الفضاء القروسطي مخضع لتشريعات منزلة لا خيار أمامه سوى تقبّلها والإذعان لأحكامها. وهو أسير انتمائه
الطائفي الضيق، غير معترف به خارج طائفته أو مذهبه، لا وجود له سياسياً أو اجتماعياً إلا في إطارهما، ولا قرار له إلا ما يفرضان عليه من إملاءات.
استناداً إلى هذه الخلفية الإيديولوجية نرى أن إلغاء الطائفية السياسية بالمعنى والشكل اللذين يصر عليهما مؤيدوه، قد يتناقض مع الديموقراطية الليبرالية.
إن المساواة المواطنية وحرية التعبير والاجتماع والدين والصحافة، واعتبار الشعب مصدر السلطة، مبادئ دونها الديموقراطية شكل من أشكال استبداد الأغلبية بالأقلية.
وهذا بالذات ما يكشف زيف المناداة بإلغاء الطائفية السياسية التي تُبقي فعلياً على أسس الحكم الطائفي ومرتكزاته.
وإذا كانت مبادئ الديموقراطية الليبرالية مرفوضة من قبل مؤيدي الإلغاء، فإنها مرفوضة أيضاً من قبل مناوئيه، وإن كانوا يتسترون بقبول العلمنة والدولة المدنية.
فهل يقبل هؤلاء بالشعب مصدراً وحيداً للسلطة؟ هل يقبلون بالنظام المدني وكل ما يستتبعه من قوانين وإجراءات؟ هل يوافقون على الزواج المدني وعلى نزع قوانين الأحوال
الشخصية من سلطة رجال الدين، ولا تزال ماثلة الحملة الشعواء التي أثارها هؤلاء على الزواج المدني الاختياري نهاية القرن الماضي؟
هذا ما يُدخلونه في إطار الممنوع التفكير فيه، ويرفضون مقاربته مقاربة عقلانية، مبررين موقفهم بانحرافات طاولت العلمانية في الغرب، كحق الإجهاض وزواج المثليين.
ولكن هل يبرر ذلك رفض العلمانية؟ ألا تعاني كل الفلسفات والإيديولوجيات، حتى أنبلها، من انحرافات ماثلة؟ فهل يكفي ذلك للتوجس منها ورفضها؟
إزاء هذا الجدل والتناقض في المواقف، نرى أنه لا مناص من الانضواء تحت دستور ليبرالي علماني يساوي بين كل المواطنين في الحقوق الإنسانية، ويفصل بين الديني والسياسي
فصلاً تاماً، تاركاً الدين لإيمان الفرد ووجدانه وضميره الذاتي من دون إقحام أية سلطة طائفية أو مدنية في قناعاته الروحية. الأمر الذي لا بد منه في رأينا لقيام
أي حكم مدني حداثي.
إذ ذاك تزول هواجس الغلبة والاستتباع الطائفييْن عند الأقليات الطائفية، ويُصار الاحتكام إلى المواطنية من دون سواها، ولا يُنظر إلى طائفة الحاكم أو مذهبه أو
لونه، طالما أنه مقيّد بدستور علماني يساوي بين الجميع، ويأخذ في الاعتبار حرياتهم وحقوقهم الطبيعية، ومن «دون تمييز بين الأشخاص أو تفريق بين الأحوال» على
حد تعبير الرائد النهضوي العلماني فرنسيس المراش.
العلمانية الليبرالية هي سمة التقدم الاجتماعي والسياسي التي جاءت بها ثورة الحداثة، ولا يمكن أن نبقى خارج عصرنا إلى ما لا نهاية، أسرى عقل القرون الوسطى وتسوياته
المفوّتة.

No comments:

Post a Comment