Wednesday, May 26, 2010

يحتفلون اليوم بعيد سيدة لبنان وينشرون كنائسهم حتى في الأمازون

اللبنانيون الموارنة الأوائل إلى البرازيل صلّوا عند اللاتين والمسلمون تنصّروا

في العام ۱۹۰٤، بدأ العمل بتشييد معبد سيدة لبنان على إحدى أجمل تلال بلدة حريصا الكسروانية، بعدما تمّ اختيارها من بين تلّتين كانت احداهما في بلدة غوسطا، وتعرف
بالحصن... وأنجز البناء في العام ۱۹۰٨ وارتفع فوقه تمثال كبير لسيدة لبنان، باسطة يديها في اتجاه خليج جونيه والبحر المتوسط. ومذذاك التاريخ أخذ لبنان وبلدان
الانتشار يحتفلون بعيد سيدة لبنان في كل أول أحد من شهر أيار. وفي هذا الاطار تحتفل مدينة مناوس، عاصمة ولاية الأمازون البرازيلية، بهذا العيد منذ زمن بعيد.
وقد قمت بتوثيق هذا الحدث، بعدما شاركت فيه لسنواتٍ عديدة، ودوّنت الكثير من الشهادات عنه وعن أخباره مع بعض الاشخاص الذين عايشوا بداياته، وشاركوا في تنظيم
نشاطاته، كونه يشكّل جزءاً من ذاكرتنا الجماعية وتاريخنا في بلاد الانتشار، وبتظاهرة لبنانية سنوية، قد تكون الوحيدة التي ما زالت تحدث حتى يومنا هذا، تذكر
أبناء هذا الانتشار بجذورهم وتاريخهم وحضارتهم، خاصة ان الطائفة المارونية تحتفل هذه السنة بذكرى مرور ۱٦۰۰ سنة على وفاة مار مارون الذي انتشر أبناؤه في كل
بقاع العالم ووصلوا الى مجاهل الامازون. فكان لا بدّ من نشر هذا البحث لإلقاء الضوء على بعضٍ من تاريخنا هذا.
بدأت الهجرة اللبنانية الفعلية الى بلدان القارات الخمس في أواخر القرن التاسع عشر، ومن بينها البرازيل، حيث انتشر اللبنانيون في مختلف أرجائها وصولاً الى بلاد
الامازون في تلك الفترة بالذات... ومن الطبيعي ان يحمل المهاجر معه حيثما حلّ عاداته وتقاليده وثقافته ومعتقداته. كانت اغلبية المهاجرين اللبنانيين آنذاك من
الديانة المسيحية والاقلية من المسلمين الذين اعتنق قسم كبير منهم يومذاك الديانة المسيحية، كون اغلبية سكان البرازيل تنتمي اليها، ورغبة منهم بعدم التمايز
عن المجتمع الذي يعيشون فيه، لأن هدفهم كان الاندماج فيه، لأسباب عديدة ومختلفة. ولممارسة شعائرهم الدينية تلك لم يجدوا الا الكنيسة اللاتينية ملجأً لهم، كونها
كانت منتشرة منذ عقود في أنحاء البرازيل الشاسعة، لكنهم واجهوا بعض الصعوبات في ذلك لأن معظمهم لا يجيد اللغة البرتغالية مثلاً، وعدم معرفة الاكليروس اللاتيني
معرفة جيّدة وعميقة بالكنائس الشرقية وبتاريخها وعاداتها وتقاليدها ... الخ. فتباينت المواقف عند اساقفتها، ومنهم من آثر تبني الموارنة وغيرهم من المسيحيين
في ابرشيته اللاتينية، وبعضهم الآخر سهّل وساعد بانشاء الرعايا المارونية وانتشارها، وأسهم بتشييد كنائسها.
في ظلّ هذه الاجواء كان العديد من المهاجرين اللبنانيين، المسيحيين عموماً والموارنة خصوصاً، يمارسون صلواتهم وشعائرهم الدينية حيث يستطيعون، في ظلّ غيابٍ كاملٍ
لكنائسهم ولكهنتهم في أماكن وجودهم.
في أواخر القرن التاسع عشر بدأ بعض الكهنة والمرسلين اللبنانيين الموارنة بالتوافد الى البرازيل، مثل الخوري يعقوب صليبا الذي وصل الى مدينة ساو باولو البرازيلية
حوالى العام 1890، حيث أسّس" الجمعية الخيرية المارونية" في العام ۱٨۹٧ يوم عيد مار مارون، وكانت تهدف الى مساعدة اللبنانيين المحتاجين. بعدها قام ببناء كنيسة
صغيرة بمساعدة أبناء الجالية اللبنانية، ونشر "مجلة المنارة". وفي العام ۱۹۰٥ أسّس مدرسة للطلاب عرفت باسمه. توفي الأب صليبا في العام ۱۹٢۹ ودفن في ساو باولو.
وبعد وفاته بقي الموارنة من دون كاهن ولا كنيسة كونها هدمت بعد ذلك بسبب تخطيط سابق.
في هذه الآونة تم في لبنان الانتهاء من تشييد معبد سيدة لبنان في العام ۱۹۰٨. وكان من الطبيعي ان يحمل العديد من المهاجرين بركة وتذكارات منه ليوفقهم الله في
رحلتهم الطويلة وحياتهم الجديدة.
في العشرينات من القرن الماضي، قام الخوري بطرس العنداري بجولةٍ على الجالية اللبنانية والطائفة المارونية في البرازيل، حضّهم خلالها "على الثبات في الدين والمحافظة
على الآداب الحميدة والتقاليد المارونية...". وقد تلقى بركة رسولية عن اعماله، من البطريرك الياس الحويّك. وفي العام ۱۹٢۹ نشر كتاباً عن رحلته هذه أسماه: "رحلة
تاريخية الى اميركا الجنوبية" طبع في مطابع ابو الهول في ساو باولو - البرازيل.

رسالة جديدة
وفي العام ۱۹٣۱، جاء من بوانس أيرس عاصمة الارجنتين الى الريو دي جانيرو عاصمة البرازيل آنذاك، المرسلان اللبنانيان: الياس ماريا الغريّب
(۱٨٨۱ - ۱۹٦۱)، وجبرايل زيدان (۱٨٨٢- ۱۹٦٣)، لتأسيس رسالة جديدة في البرازيل، فلقيا ترحيباً حاراً نظراً الى ترقّب الجالية وإلحاحها الشديد لرؤية المرسلين
في ظهرانيها"، فبدأوا العمل بجدٍّ وحماس، إن لجهة إيجاد مقّر للرسالة، أو "بالانطلاق من دون إبطاء لتفقّد الجماعات المنتشرة" في مناطق عدّة من البرازيل. وفي
العام 1932 تمّ تدشين مقرّ الرسالة في الريو دي جانيرو وفي حضور رئيس أساقفتها الكاردينال سيباستيان لالي "الذي عرف بتقديره البالغ ومحبته للشعب الماروني" والذي
قام بمساعٍ حثيثة لدى الكرسي الرسولي والسدّة البطريركية لتأسيس رسالة مارونية في تلك المدينة.
هكذا بدأ الوجود الكنسي المسيحي اللبناني والماروني يأخذ مداه في البرازيل، وانضمّ الى الرسالة في العام ۱۹٣٢ الاب يوسف الهاني (۱٨۹٤-۱۹٧٥) آتياً من الارجنتين
"فتكاثف النشاط الروحي ضمن العاصمة وعبر الولايات المتاخمة وحتّى البعيدة. وهكذا مع الايام ترسّخت النواة الاولى وتواصل نموّها وامتدادها، فتماسكت روابط الجالية
اللبنانية واصبح لها كيانها المميّز، سواءً لدى المرجعين الروحي والزمني". وفي هذا السياق وصل الأب الياس الغريّب الى بلاد الامازون وزار عاصمتها مناوس في العام
۱۹٣٧، وهو الذي زار أكثر من ثلاثمئة مدينة وقرية في البرازيل، والكثير منها أكثر من مرّة، وكان يقيم رياضات روحية او ثلاثيات او ندوات، فيرشدهم ويوجّههم ويدعوهم
الى المحافظة على تراثهم وثقافتهم والعيش على خطى المسيح والوفاء لبلدهم الأم، والبلد المضيف..."، ويعمل على انشاء أخويّة عل اسم سيدة لبنان او معبد او مذبح
على اسمها ... وتمثال للقديس مارون!"
لاقى الأب الياس الغريّب كلّ الترحيب في مدينة مناوس عاصمة ولاية الامازون، من الجالية اللبنانية التي كانت بدأت بالوجود في تلك المنطقة منذ أواخر القرن التاسع
عشر، وذلك بسبب ازدهارها اقتصاديّاً نتيجة اكتشاف الكاوتشوك وتجارته، فانتشروا في مدنها وقراها ودساكرها، يعملون جاهدين لتحقيق أحلامهم فيها. وكانت مدينة مناوس
تعرف آنذاك باسم"باريس البلاد الاستوائية" نتيجة لتطورها وغناها ... وكان معظم اللبنانيين، بعد ان تحسّن وضعهم الاقتصادي يقيمون ويعملون في حي "الريماديو" الذي
يشرف على مرفأ المدينة والذي تتوسّطه كنيسة "NOSSA SENHORA DOS REMEDIOS" التاريخية التي أعطت اسمها للحي المذكور، علماً بأن هذا الحي كان يعرف، وما زال، بحيّ
"اللبنانيين والسوريين" كونهم كانوا يسكنون ويملكون كل المنازل فيه ما عدا منزلين فقط. وفي هذا الاطار لا بد لنا من اعطاء لمحة تاريخية مختصرة عن الكنيسة المذكورة
كونها كانت وما زالت منذ وصول اللبنانيين الى هناك حاضنة لهم ولنشاطاتهم ولممارسة شعائرهم الدينية فيها.
بنيت كنيسة "سيدة الريماديو" في العام ۱٨۱٨ على شكل كابيلا، مكان مقبرة هندية قديمة. وتمّ احراق الكنيسة في العام ۱٨٢٧. وخلال القرن التاسع عشر، جرت فيها أعمال
ترميم وتوسيع متعددة فتحوّلت كاتدرائية تمّ استعمالها منذ العام ۱٨٥۱ حتى العام ۱٨٥۹ ككنيسة رعائية بدل الكنيسة الاصلية بسبب حريق شبّ في هذه الاخيرة. وفي ۱٨٧۰
جرت اعمال ترميم وتوسيع اخرى اعطتها شكلها الحالي، فأصبح مدخلها الاساسي وواجهتها يعلوان الساحة التي تحمل اسمها، مع منظر بانورامي على النّهر الاسود تحتها...
وفي بداية القرن الماضي وأواخره جرت أعمال ترميم مهمة للمحافظة عليها وعلى شكلها الحالي، وقد ساهم اللبنانيون والسوريون مع غيرهم في هذه الاعمال كونها كنيستهم.
عقد الاب الياس غريّب في مناوس لقاءات واجتماعات عديدة مع أبناء الجاليتين اللبنانية والسورية هناك، وكان يقيم لهم "الرياضات والمواعظ الروحية" ويحضّهم على
التضامن والتكاثف في كل الأمور، وفي احدى الحفلات التي أقامها في قاعة "جمعية الاتحاد السوري اللبناني" ألقى شكري السبع كلمة جاء فيها: "احييك أبت واحيي بك
الحمّية والنشاط والسعي لرفع الاسم السوري واللبناني وتعزيزه لدى المراجع العليا دينية كانت ام مدنية. أحيي جهودك المتواصلة لإحياء آثار تاريخ الآباء والاجداد،
وتجديد تذكاراتهم القديمة... سيبقى لنا ابداً ذكراً صالحاً لزيارتك هذه الديار نذكرها بالثناء والاعجاب...".

كيان ديني
قبل مغادرته مدينة مناوس أسّس الاب الغريّب في الاول من تشرين الثاني من العام ۱۹٣٧ بالتعاون مع ابناء الانتشار هناك، أخوية سيدة لبنان واختير شكري السبع أوّل
رئيس لها. وشكّلت بذلك كلّ من زيارة الاب المذكور وتأسيس الاخوية مفصلاً مهماً في تاريخ الوجود الماروني واللبناني هناك، كون الزيارة هي الاولى لكاهن ماروني
ومسيحي الى أبناء طائفته الموجودين هناك منذ عشرات السنين، وشكّلت الاخوية اول كيان ديني يجمعهم وينظمهم بعدما كانوا مبعثرين في تلك البلاد البعيدة. وكانوا
قد أنشأوا قبل ذلك بسنوات الاتحاد اللبناني السوري "الذي شكّل اطاراً لنشاطاتهم الاجتماعية والتربوية والمدنية هناك. وأخذت الاخوية تجتمع كل نهار أربعاء، وكانت
تضم العديد من أبناء الانتشار اللبناني والسوري من نساء ورجال من مختلف الاعمار، وكانت الاخوية تقوم كذلك بنشاطات اجتماعية من خلال تعاونيّة أنشأتها تساهم بمساعدة
مادية لأفرادها، كالذي يرزق بولد او يتوفى له أحد أفراد عائلته فضلاً عن مساعدة المحتاجين منهم. واستمرّ العمل بهذا التقليد حتى أواخر الستينات من القرن الماضي.
ويتبيّن لنا من مراجعة احد دفاتر الاخوية أنها كانت تموّل نفسها من خلال اشتراكات وتبرّعات تجمعها لتغطية مصاريفها. واستمر شكري السبع يتابع نشاطاته في الاخوية
المذكورة، حريصاً على استمراريتها وتقدّمها بعدما تخوّف من انفراط عقدها بعد مغادرة الكاهن المؤسس لها، وظلّ كذلك حتى وفاته في العام ۱۹٦۰. وترأس بعده أخوه
يوسف السبع الاخوية حتى مغادرته مناوس الى لبنان في العام ۱۹٧٢، وتعاقب على الرئاسة بعده انطونيو البلبل، وفكتور صفير، وهيفاء البلبل... الخ. وشيّد ابناء الانتشار
في مناوس مذبحاً كبيراً يحمل اسم سيدة لبنان داخل كنيسة الرماديو على شمال المذبح الاساسي، ويعلوه مجسّم مشابه لمعبد الكنيسة المذكورة في حريصا، ويصل ارتفاعه
الى حوالى المترين فوق المذبح، فكانوا، وما زالوا، يقيمون احتفالهم السنوي كل أول أحدٍ من أيار أمامه، الذي يبدأ بقداس احتفالي تليه حفلة تجمعهم بعده في صالون
الكنيسة. ويتمّ بالمناسبة توزيع مساعدات غذائية الى المحتاجين في الرّعيّة...
وفي العام ۱۹٨٤، كانت زيارتي الاولى الى مدينة مناوس للتعرف الى عائلتي هناك، ففوجئت خلال مشاركتي بعيد سيدة لبنان، بحماس أبناء الجيل الثاني والثالث للمهاجرين،
بالتحضير والمشاركة بهذا الاحتفال، اذ إن حماسة من تبقّى من الجيل الاول هو تحصيل حاصل... وفي السنوات اللاحقة التي أمضيتها في تلك البلاد الرائعة كنت أتشرف
بدعوتي للتحضير لنشاطات تلك المناسبة فلاحظت أولاً أنّ الاحتفال بهذا العيد هو التظاهرة اللبنانية السنوية الوحيدة التي تحدث هناك الا ما ندر من مناسبات أخرى.
لهذا، لا بدّ من المحافظة عليها وتشجيع القائمين بها، على المثابرة والمتابعة، وتحضير جيلٍ جديد للقيام بهذا الفرض. وثانياً: كان القداس يجري وفق الطقس اللاتيني،
وإن عدد الذين يجيدون العربية من المشاركين لا يتجاوز عدد أصابع اليدين، فقمنا بادخال بعض التراتيل بلغتنا العربية والسريانية قبل القداس وبعده، لتعريف المشاركين
ببعض تراثنا، وكلّها كانت تبثّ بواسطة آلة تسجيل... فالعديد منهم يتباهون بمارونيتهم، وقلة منهم كانوا على معرفة بتاريخهم وتراثهم.
لذلك كانت ابنة عمي ابرهيم، آديلايد، أي عدلا بالعربية، وآباراسيدا صفير تقومان بشرح وتفسير هذا الموضوع الى الحضور في كل مناسبة تجمعهم. ولاحظت ثالثاً، الغياب
الاعلامي عن تغطية هذا الحدث، فقمت بالاهتمام بهذا الموضوع في الصحف المحلّية والاعلام المرئي والمسموع. رابعاً: كنت أشدّد على دعوة أعلى سلطة دينيّة في مناوس
لترؤس الاحتفال بالذبيحة الالهية. وهذا ما قام به المطرانDOM LUIZ SOARES VIEIRA خلال سنوات عدّة. وكان يفاجئ الجميع خلال عظته بسعة اطلاعه على تاريخ الموارنة،
بأدق تفاصيله.
خامساً: ضرورة الاجتماع بعد القداس لكل الحاضرين، على شكل حفلة او كوكتيل، بالمناسبة للقاء بعضهم ببعض، ولكي يتعرّف أبناء الجيل الجديد على أهل وطنهم لأنه،
للأسف، لا يحصل اجتماع للجالية الا في تلك المناسبة. وقد شدّدت على هذا الأمر بعدما لاحظت تراخي وتقاعس القيّمين على هذا الحدث في تنظيم هذا الأمر بسبب تقدمهم
في السّن وعدم إدراك البعض الآخر أهميته. وبالفعل، هكذا كانت تجري الامور في التسعينات من القرن الماضي، بتعاون وتضافر جهود القيّمين علي هذه المناسبة... وكانت
أليس صفير، التي كانت تقوم بخدمة القداس مع آخرين، تفاجئنا في نهاية القداس بدعوتنا للتوجه الى المذبح، لتلاوة او انشاء صلاة باللغة العربية، كوننا الوحيدون
الذين يجيدونها، فنحقق هذا الامر وسط إعجاب الحضور وتأثره. وفي العام ۱۹۹٤ قامت اميلي عاصي، وهي في عمر يناهز المئة عام، بانشاد "يا أمّ الله"، هذا النشيد الذي
أحبته وأحبّه الجميع وأنشدته عشرات المرات في كنيستنا وامام معبدنا هناك بصوتها الجميل والمميّز، وأخذ صوتها يرتجف ويخفّ تدريجياً، فقد شاخت ولم يشخ حبّها للبنان،
ولا لسيّدته... فكان علي أن أرافقها عبر مكبّر الصوت وأخذ صوتي يرتفع تدريجيّاً لملء الفراغ، مع خوفي أن لا أجيد الانشاد كونها المرة الاولى التي أقوم بهذا
الأمر في هكذا مناسبات. ولكن الامور جرت على ما يرام، وعلى تصفيق الحضور لما انتهينا، فحبست دمعتين في عينيّ لتأثّري أولاً ومعرفتي بأنها قد تكون المرّة الاخيرة
التي يعلو فيها هذا النشيد في تلك الكنيسة كون اميلي، صاحبة الصوت الجميل هي التي كانت تقوم بهذا الانشاد منذ زمن طويل ولا بديل عنها... وبالفعل غابت اميلي
في السنة التالية عن هذا الحفل بسبب مرضها ثمّ وفاتها. وقمت من بعدها مع رفيقتي عمرها، جمال وآباراسيدا، بتلاوة الابانا والسلام باللغة العربية في نهاية القداس
عوضاً عن انشاد "يا أمّ الله"...
ولا بدّ من الاشارة هنا، بعد زيارة المرسل اللبناني الياس الغريّب الى مناوس في العام 1937 الى أنه زارها المرسلان اللبنانيان الاب فيليب يزبك في العام ۱۹٦٥
والاب اميل اده لمرتين، كان آخرها في العام 1992، وكانا يقومان بزيارات رعوية وقداديس في منازل أبناء الجالية هناك. وكذلك فعل بعض الكهنة من الأرثوذكس والروم
الكاثوليك.

المطرانان محفوظ وماضي
ولعلّ أهم زيارة الى هناك كانت زيارة المطران يوسف محفوظ، راعي الأبرشية المارونية في البرازيل، في العام ۱۹۹٢ الى تلك المدينة كونها أحيت في أبناء الانتشار
شعورهم الوطني وانتماءهم الماروني والمسيحي المشرقي بعد طول غياب. وتميّزت هذه الزيارة بطابعها الرسمي والشعبي، حيث زارهم المطران محفوظ في منازلهم واستمع الى
أحلامهم وأقام لهم قداساً مارونياً في كنيستهم التي علت في أرجائها الالحان المارونية، قسم منها "بلغة المسيح "، فأثارت فيهم حنيناً وذكريات لا تنسى .. ووزع
عليهم كتابه عن تاريخ الموارنة المترجم الى اللغة البرتغالية وحظيت زيارته هذه بتغطية إعلامية شاملة، أدلى خلالها بالعديد من التصاريح عن لبنان ومستقبله، وعن
المارونية وتاريخها، وحلّ ضيفاً على برنامجين من المقابلات المطوّلة. وظلّ بعد مغادرته تلك الارض الطيبة على تواصل مع أبنائها، يرسل اليهم منشوراته وكتبه ويطّلع
على أحوالهم حتى عودته الى لبنان... وهكذا أحسّ أبناء مارون بعد أكثر من مئة عام على وجودهم هناك، وخاصة الاجيال الجديدة منهم، بأهمية وجمال تراثهم المشرقي
وأخذوا يتلهفون للتعرف اليه أكثر.
وفي العام٢۰۰٨ قام المطران إدغار ماضي مطران الموارنة الحالي في البرازيل بزيارة الى شمالها شملت مدينة مناوس وحلّ فيها ضيفاً على مطرانها وترأس القداس الالهي
في كنيسة الريماديو يوم الاحد في۱۱¥٥¥٢۰۰٨ بمناسبة عيد الامّهات. وفي العام ٢۰۰۹ قام المطران ماضي بزيارة ثانية الى أبناء الانتشار هناك، وترأس قداس عيد سيدة
لبنان في الكنيسة المذكورة سابقاً وفق الطقس اللاتيني الماروني، وجرت بعده حفلة في صالون الكنيسة. وشدّد المطران خلال هذه الزيارة على ضرورة تضامن واتحاد أبناء
الانتشار اللبناني هناك، وعلى وجوب وضرورة تفعيل نشاطاتهم، وعقد لاحقاً اجتماعاً ضمّ عدداً من أبناء الجالية اللبنانية بهدف تأسيس جمعية لهم والعمل على اقامة
كنيسة مارونية هناك .. "الحلم كبير طبعاً، ولكن ليس عند الله من امرٍ عسير".
في العام ۱۹۹٧ دوّنت في مفكّرتي ما يأتي: "قد تكون هذه السنة الأخيرة التي أساهم فيها بتحضير عيد سيّدة لبنان في مناوس، وقد اهتممت بالناحية الاعلامية أكثر
من غيرها، لأن الآخرين اقتنعوا بعد هذه السنين التي أمضيتها معهم بضرورة الاستمرار بعقد لقاءٍ بين بعضهم بعد القداس مع توزيع المساعدات للمحتاجين وأهمية ترؤس
مطران مناوس الذبيحة الالهية.". فقمت بزيارة فيليب ضوّ، صاحب ومدير عام تلفزيون "TV AMAZONAS"، وأحد أبرز رجالات الجالية اللبنانية هناك، حاملاً معي مجموعة
من الصور والوثائق لتسجيل وتصوير اعلان وريبورتاج عن الاحتفال، فوافق واقترح عليّ تصوير وبثّ ريبورتاجات عدة عنه. أما منتج برنامج "EN CENA" الثقافي على تلفزيون
TV CULTURA المخرج "INACIO OLIVEIRA" والذي وافق على الموضوع، طلب مني تسجيل مقابلة بهذا الخصوص، فاقترحت عليه أن يشاركني في التسجيل أقدم الواصلين الى مناوس
جمال فضول التي وصلت الى هناك في أوائل القرن الماضي كونها شاهدة على ذلك العصر، والكاتب الأمازوني اللبناني الأصل ميلتون حاطوم، كونه أحد أبرز الوجوه الثقافية
في مناوس والبرازيل، وأن يتضمن الريبورتاج تصوير وتوثيق الحيّ الذي سكنه اللبنانيون، والذي حمل اسمهم، فوافق على كل هذه الافكار وأخرج العمل بطريقة وثائقية.
أمّا انا فتكلّمت كوني آخر الواصلين الى تلك البلاد. ونشرت في كل من جريدتي "ACRITICA" و"AMAZONAS EN TEMPO " اللتين تعتبران من أهم الصحف هناك مقالين بهذا
الموضوع...
وغادرت بالفعل مناوس في تلك السنة. وخلال زيارتي الأخيرة الى الصديقين فيكتور وآباراسيدا صفير قامت هذه الاخيرة بنزع المسبحة الزرقاء من حول يدي تمثال سيدة
لبنان الموجود في صالون منزلها، والذي تصلّي أمامه مع صديقاتها يومياً منذ زمن طويل وأعطتني إياها وضمتني الى صدرها بكل حنانٍ ومحبة قائلة لي: احتفظ بهذه المسبحة
معك لتحميك حتى عودتك الى لبنان... وعند وصولك الى هناك قم بزيارة معبد سيدة لبنان في حريصا قبل وصولك الى منزلك في غوسطا... وقبلتني ومشيت. وعند عودتي الى
ربوع الوطن بعد حوالى السنة من مغادرتي مناوس، وغربةٍ طويلة قمت بتنفيذ هذه الوصية الغالية كما أرادتها صديقتي الحنون...
هذا جزء من حكايات أبناء الانتشار اللبناني الاعزاء الذين حطوا رحالهم في مجاهل الأمازون الحبيبة.

تحقيق جاك مناسا
جريدة النهار

No comments:

Post a Comment