Thursday, April 15, 2010

13 نيسان «عيد الجنون»
طاولة حوار لمشروع وطني

ادمون صعب

«إن ثقافة التسامح السياسي تقضي بأن يغيّر كل لبنان اليوم مفهومه حيال الآخر. فوحده هذا التغيير يفتح أمامنا المجال رحباً لتحويل جغرافية الخوف عيشاً مشتركاً،
أصيلاً وصادقاً».

الدكتور سمير خلف
(في «لبنان في دائرة العنف»)

هل كان لدى الطبقة الحاكمة في لبنان سوى المباراة الهزلية في كرة القدم التي جرت في المدينة الرياضية أول من أمس، في الذكرى الخامسة والثلاثين لاندلاع الحرب
اللبنانية، والتي لا يوازيها في الخفة والارتجال وانعدام المسؤولية سوى وفد «المديرين العامين» الذي كان مقرراً أن يتوجه أمس إلى دمشق، وألغت العاصمة السورية
اجتماعاته نظراً إلى أن «مستوى التمثيل فيه كان أدنى من مستوى التمثيل لنظيره في دمشق»؟
لقد كشفت فكرة المباراة أن اللبنانيين لا يزالون يلهون منذ أكثر من قرن ونصف قرن بلعبة مفخخة غالباً ما تؤدي إلى تفجير الملعب وإقفاله حتى إشعار آخر!
وهذا ما هو حاصل في لبنان منذ أحداث 1860 وقد قضى النظام الذي أقيم على أثرها، سواء مع القائمقاميتين المارونية والدرزية أو مع المتصرفية، بعد تدخل من الدول
الكبرى مع الدولة العثمانية، بعزل المسيحيين، والموارنة في الدرجة الأولى، عن الدروز وبقية الطوائف الإسلامية. واعتمد طريق الشام خطاً للفصل بين الفريقين.
وقد أدى هذا التدويل للقضية اللبنانية إلى منع قيام شعب واحد ونشوء هوية واحدة. وجرى إحلال الهويات الطائفية والمذهبية مكان الهوية الوطنية الجامعة. فاستمر
لبنان مجموعة قبائل في شعوب، لكل منها هويتها الطائفية، فضلاً عن خصوصيتها وامتيازاتها، ودولها وجيوشها، وإداراتها، إضافة إلى علاقاتها الخارجية.
وهذه الشعوب هي التي كانت تلعب أول من أمس في المدينة الرياضية، وقد موّهت ألوان الملابس الرياضية التي ارتداها اللاعبون هوياتهم المختلفة، وكبحت جموح بعضهم
إلى الاستئثار والاندفاع بها وحده إلى المرمى.
ولو لم تكن المباراة هزلية، وأبعد عنها الجمهور المنقسم في هويته، وليس في لونه السياسي فحسب، لكنا شهدنا ما يشبه المجازر.
والصراع على الهوية هو السمة الأساسية للنزاعات التي تتجدد خلال فترات زمنية متفاوتة، وفتيلها الأساسي هو الديني، يليه العامل الديموغرافي الذي أعاد إليه العالم
الأميركي صموئيل هانتينغتون صاحب نظرية صدام الحضارات، أسباب انفجار الحرب اللبنانية في 13 نيسان 1975، فقال في كتابه «صدام الحضارات» إن «التوسع العددي لمجموعة
معينة غالباً ما يثير ضغوطاً سياسية واقتصادية واجتماعية على المجموعات الأخرى، كما يولّد ردود فعل مقابلة. بل أكثر من ذلك. إذ إنه يوجد ضغوطاً عسكرية على الجماعات
ذات الدينامية السكانية الضعيفة. فانهيار النظام الدستوري في لبنان، مطلع سبعينيات القرن الماضي، هو في جزء كبير منه نتيجة الزيادة الكبيرة لأعداد السكان الشيعة
بالنسبة إلى عدد المسيحيين الموارنة.
وهو يرى أن الدين هو أهم مكوّنات الهوية، وغالباً ما تتحوّل النزاعات الطائفية والمذهبية مواجهات دموية لأنها تطرح الهوية كقضية أساسية وتتماهى جماعات معينة
معها. وأن هذه النزاعات لا مستقر لها، وقد تطول دون حلول. وإذا توقفت فلوقت قصير نسبياً، تعتبر هدنات أو انتظارات غالباً ما تكون قصيرة (في لبنان: 1958 ـ 1969
ـ 1975 إلخ...). إذ لا تلبث المعارك أن تُستأنف وفي حال انتصار أحد الأفرقاء على الآخر، فإن هناك أخطار المذابح والتصفيات، كل ذلك في سبيل الهوية.
لذلك لا يكفي «ماتش فوتبول» هزلي لدفن الأحقاد، ونسيان الماضي، وتنقية الذاكرة إلخ...
وإذا قيل إن النسيان وتنقية الذاكرة قد يؤديان أحياناً إلى تجاوز الماضي، في حال جرت مصالحات بين المتقاتلين ودُفعت تعويضات لمتضررين وكذلك لأهالي الضحايا،
فإن الرد على ذلك يكون بالقول إن النزاعات ذات الطبيعة القبلية والدينية غالباً ما تتوقف بفعل تعب المحاربين وتزايد أعداد الضحايا، وتكاثر اللاجئين، وتدمير
المدن والبنى التحتية، فتصرخ الناس عندها: «كفى جنوناً»!
وسبق للأستاذ غسان تويني أن وصف الذكرى الأولى لأحداث 13 نيسان 1975 بـ«عيد الجنون» متخيلاً الأموات يستعرضون الأحياء في احتفال كبير.
كما تتوقف النزاعات بفعل تدخل خارجي يتمتع بتأثير على المتحاربين من دون أن يعطى هؤلاء فرصة الجلوس معاً لحل مشاكلهم، الأمر الذي يبقي النار تحت الرماد.
وتلقي طاولة الحوار التي تعود إلى الانعقاد اليوم في بعبدا، طبقة إضافية من الرماد فوق الجمر إلى حين الوصول إلى الطريق الذي من شأنه أن يؤدي، في المدى الطويل
ـ وهذا قدر الشعوب المتعددة الإثنية والثقافة والطائفية ـ إلى قيام شعب لبناني واحد، ونشوء هوية وطنية واحدة معترف بها من الجميع.
ذلك أنه إذا استمرت الهوية الطائفية والمذهبية بديلاً من الهوية الوطنية، فسيستمر لبنان مجموعة شعوب كما سيستمر النزاع والخصام على كل الثوابت الضرورية لبقاء
لبنان دولة وكياناً.
إذ لو كان لبنان شعباً واحداً، متنوعاً طائفياً وثقافياً لا متعدداً، يتمتع بهوية واحدة، لكانت له ثقافة واحدة وثوابت واحدة معترف بها من الجميع. فلا نزاع حول
العروبة، ولا حول المقاومة، ولا حول السلاح، ولا حول إلغاء الطائفية السياسية، ولا حول الدولة المدنية والإصلاح، والمساواة بين المواطنية إلخ...
ولا كان لكل شعب سلاحه للدفاع عن أرضه، على ما قال البطريرك صفير أخيراً عن حادث عيون أرغش.
فلنحوّل طاولة الحوار منصة للبحث في مشروع وطني يقوم على قواسم مشتركة يتحقق في ظلها اندماج الشعوب والقبائل اللبنانية في متحد اجتماعي غير طائفي، تُحترم فيه
الديانات والعقائد، وتتبلور في إطاره، بالممارسة، وتدريجاً، الهوية العربية التي لا تزال حبراً على ورق في الدستور يتم التحايل عليها يومياً.
وهذا مشروع تاريخي، يحتاج إلى وقت، وإن طال، لكنه كفيل بتجنيب لبنان واللبنانيين الحروب الهمجية كل عقدين أو ثلاثة. كما يوقف نزف الهجرة، ولا سيما في أوساط
المسيحيين. ذلك بأن الهجرة ليست انتشاراً، كما يعزي البعض نفسه، يعود إلى أيام الفينيقيين بمقدار ما هي وجه من وجوه الصراع على الهوية الوطنية، وهروب مجموعات
معينة إلى الأمام، إلى الخارج، طلباً لهويات أجنبية ويا للأسف.
ولنا في سنغافورة مثال صالح. إذ هي متعددة الإثنية والثقافة واللغة. فشعبها موزع بين 76% من أصل صيني، و15% مالاوي ومسلم، و6% هندي بين هندوسي وسيخ. وتستلهم
حكومتها القيم الكونفوشية الأصلية، أما لغتها فهي الإنكليزية.
وقد وجدت سنغافورة نفسها أخيراً في مواجهة أفكار وتكنولوجيات جديدة تنطوي على قيم وأساليب حياة غربية معاصرة.
فحاولت التوفيق بين قيم الماضي وحضارة الحاضر على غد ينسجم مع الروح السنغافورية، المستمدة من جذورها الإثنية ومعتقداتها الدينية الكونفوشية والهندوسية والإسلامية،
وتوصلت إلى إيجاد نقاط أو قواسم مشتركة ضمّنتها كتاباً أبيض تركزت مبادئه على الآتي:
ـ إن الأمة هي فوق الإثنيات، ومصلحة المجتمع قبل مصالح الأفراد.
ـ العائلة هي النواة الأساسية للمجتمع.
ـ ضرورة المحافظة على الشخصية الفردية والدفاع عنها.
ـ تبني مبدأ التوافق بدل التنازع.
ـ تحقيق الانسجام الديني والعرقي بين جميع مكونات الشعب.
ولقي هذا المشروع قبولاً من الجميع ووصف بأنه «محاولة طموحة وذكية من أجل تحديد هوية ثقافية وطنية تتشارك فيها المجموعات الإثنية والطائفية، وتأخذ بالحداثة».

إنه مشروع حضاري، فلماذا لا تنظر بعبدا فيه؟
جريدة السفير

No comments:

Post a Comment