Tuesday, April 20, 2010

ليبتعد برّي عن جزّين... ولتواجَه فتنة «القوّات»
ابراهيم الأمين
لم يكن مسيحيّو الأقضية الجنوبية يوماً في قلب مشروع «الدولة المسيحية» التي عملت قوى الجبهة اللبنانية على تحقيقها في جبل لبنان قبل الحرب الأهليّة وخلالها. وعندما قامت الميليشيات الجنوبية بقيادة سعد حداد، الابن السياسي للتيار الشمعوني، تشاركه كوادر من الكتائب وحرّاس الأرز ولاحقاً من «القوات اللبنانية»، كانت وظيفتها دفاعيّة تخصّ إسرائيل. ولذلك لم تتصرّف الجبهة اللبنانية، و«القوات» على وجه التحديد، بمسؤولية في فترة الحرب القاسية بين عامي 1983 و1985. بل على العكس، مارس سمير جعجع تهوّراً لا سابق له، أدّى في النهاية إلى فعل تهجيريّ لعشرات الألوف من مسيحيّي ساحل الشوف وشرق صيدا، دون أن يكون لمعظمهم أيّ ذنب في معارك جعجع أو جرائمه.
استغلّت «القوّات» في حينه الموقع الجغرافي والديموغرافي لهؤلاء في معركة الدفاع عن مشروع الدولة المسيحية في النصف الشمالي من جبل لبنان، وبعض مناطق الشمال حيث بدا الناس في موقع مناقض تماماً لمواقف «القوات» وطموحاتها. وقد برزت هناك شعبية العماد ميشال عون التي قامت على مناهضة سيطرة «القوات» وبرامجها. وهذه المناطق هي نفسها التي تواجه «القوات» فيها اليوم صعوبة حقيقية على مستوى النفوذ والانتشار.
في المقابل، كانت القوى الواقعة في صف المواجهة مع مشروع «القوات» تتصرّف بطريقة متناقضة: وليد جنبلاط لم يرَ في كل ما حصل آنذاك سوى أنّ إمارته الدرزية القائمة جنوبي خط الشام، تحتاج إلى «زنار حماية». وهو ما اتّخذه حجّة لأعمال التدمير لكل القرى المسيحية في الشوف وساحله. يومها، أقنع جنبلاط رفيق الحريري بأنّ لهذا الاستئصال وظيفة مزدوجة: إبعاد المسيحيين الذي يخدم المصالح الدرزية، ومنع «توطين» الشيعة، الذي يخدم مشروع الحريري. وكانت نقطة التقاطع الأولى عام 1985. لكن الترجمة العملية لها، جاءت بعد أقل من عقد (1994) حين اعتقد جنبلاط والحريري أنّ الحل يقوم من خلال نقل تجمّعات فلسطينية من مخيّمات صيدا والجنوب إلى قلب إقليم الخروب، فكان مشروع القريعة. وراهن هؤلاء على أنّ حصول التوطين كفيل بمنع عودة المسيحيين إلى قراهم، ومنع أيّ تمدّد شيعي، فيما كانا يفكّران أيضاً في كيفية الاستعانة بالفلسطينيين لينشئوا قوّة احتياطيّة تعمل في خدمة الحريري وجنبلاط عند الحاجة.
جنون «القوات» بقيادة جعجع نفسه، سهّل على الحريري وجنبلاط الخطوة التالية. لكنّ المفاجأة كانت في أنّ المشروع نفسه لم ينجح. وقد أدّت التطوّرات إلى تراجع المشروع الإسرائيلي وصولاً إلى هزيمته عام 2000، وإلى فشل مشاريع التسوية وصولاً إلى جيل جديد من المقاومة الفلسطينية. وترافق ذلك مع تدهور في مسار المشروع الأميركي انعكس تراجعاً في نفوذ الولايات المتحدة وحلفائها في لبنان والمنطقة.
في تلك اللحظة، كان نبيه بري أحد رموز الجبهة المقابلة للجبهة اللبنانية. لكنه كان في حالة حرب حقيقية مع الآخرين من أهل صفّه، من وليد جنبلاط وبعض القوى اليسارية، إلى الفلسطينيين أنفسهم. ومع ذلك، تنبّه برّي إلى أنّ استعادة الحضور المسيحي في شرق صيدا، يمثّل مصلحة حيوية لحماية التنوّع في الجنوب، كما يساعد على كبح مشاريع الإمارات الطائفية الأخرى، ويساعد على توجيه ضربات إلى مشروع «القوات اللبنانية» نفسها. وقد نجح بري في بناء شراكة حقيقية مع القوى الصيداوية التي خاصمت الحريري لتوفير الحماية الفعلية لكل الوجود المسيحي الذي عاد إلى شرق صيدا. ثم جاء سلوك مقاومة «حزب الله» في منطقة جزين، وفي بقية قرى الشريط الحدودي (وخصوصاً المسيحية منها)، وهو سلوك حافظ على مسافة كبيرة من فعل الانتقام الجماعي، وقد جرى التعبير عنه عند حصول التحرير عام 2000.
لذلك، فإن الأسس غير المرتّبة للتفاهم الذي قام بين التيار الوطني الحر وحزب الله، كانت قائمة في ما هو محفوظ في الذاكرة الجماعية لجمهور الطرفين خلال سنوات الحرب، إضافةً إلى ما نشأ من مصالح، وليس لدى الجانبين وناسهما ما يمكن استعادته على شكل مأساة. وبرغم قسوة الحرب الأهلية وبشاعتها، فإن العقل الجمعي لجمهور حزب الله والعماد عون، ظل في حالة تنافر سياسي، لا في حالة تصادم أهلي.
مناسبة هذه الاستعادة، ما يجري الآن في جزين وقرى شرق صيدا، حيث يبدو مناخ التصادم الانتخابي مطابقاً لما ساد في 7 حزيران. وثمة وجهة واضحة لدى أنصار الرئيس نبيه بري في خوض معركة تهدف إلى «استعادة الزعامة» في المدينة ومحيطها. وثمة أدوات تعمل على تحقيق هذا الهدف، لكن مخاطر كثيرة تحتاج إلى إبراز، دون السؤال عن نتائج أيّ انتخابات تحصل:
أولاً: لا يمكن اعتبار الرئيس بري أنّه «غير معني» بانتخابات جزين، خطوة إيجابية، بل هذه دعوة إلى أنصاره في المنطقة إلى بناء تحالفات ذات طبيعية سياسية، مغلّفة بعناوين إنمائية. فأنصار رئيس المجلس في تلك المنطقة يريدون خوض معركة بوجه التيار الوطني. ولأنّ وضعهم الانتخابي لا يتيح لهم توازناً، سوف يعمدون إلى بناء تحالفات مع الكتائب و«القوات» وبعض الشخصيات المستقلة القريبة من مناخ 14 آذار. وهذا يعني، ببساطة، أنّ الرئيس بري يسهّل قيام تحالف بين أنصاره وقوى 14 آذار المعادية للمقاومة وله ولدوره في وجه حليف المقاومة المسيحي ممثّلاً بالعماد عون.
ثانياً: لا يمكن إشعار أبناء شرق صيدا من المسيحيين بأنهم مضطرون إلى دفع «جزية» تارةً بحجة أنّ الدور الذي يؤدّيه الرئيس بري في حماية عودتهم إلى قراهم، وفي تنميتها، يجب أن يكون له مقابل بالتسليم لأنصاره بإدارة المنطقة سياسياً وإنمائياً. وهذه معادلة غير حقيقية، ولا تشبه المناخ الذي أرساه التفاهم بين «حزب الله» والتيار الوطني.
ثالثاً: إنّ «القوات» عادت إلى مشروعها نفسه، وهي لا تجد سوى مبدأ الخوف، وسيلةً للتعبئة في صفوف المسيحيين، تارةً بوجه الدروز، وأخرى بوجه السنّة أو الشيعة. وموقع «القوّات» السياسي الحالي، يدفعها إلى تولّي مهمّة بثّ الذعر في الأوساط المسيحيّة من أن المقاومة تمثل مشروعاً طائفياً على مستوى لبنان يخصّ الشيعة وحدهم، كما تمثّل مشروعاً سياسياً غريباً على مستوى المنطقة، ومشروعاً تصادمياً مع الغرب المسيحي على المستوى العالمي. وبالتالي، فإن مواجهة المقاومة باتت أولوية مطلقة لدى فريق «القوات».
حادثتان تمهّدان لحماية «القوّات» ومساعدتها على فتح نزاع طائفي
رابعاً: يرى فريق «القوات» أنّ كل ما كان يفكر فيه سابقاً صحيح. وخطاب جعجع الأخير، يثبّت عناوين المشروع نفسه. وبالتالي، فإنّ «القوات» التي لم تكن يوماً مهتمة بأبناء شرق صيدا، لا تزال تريدهم وقوداً لمعاركها في قراهم، وعصباً ضمن مشروع الدولة المسيحية بعد تهجيرهم. وهذا ما يفسر حماسة فريق «القوات» لخلق مناخ تصادمي في شرق صيدا.
خامساً: شهدت صيدا ومنطقتها خلال العام الأخير حادثتين لافتتين: الأولى عندما جرت تدخّلات من مراجع مسيحية، ومن «القوات» على وجه التحديد، مع النائبة بهية الحريري وتيّار «المستقبل» لمنع محاكمة عناصر من «القوات» شاركوا (بحسب شبهة التحقيق) في جريمة خطف المناضل الصيداوي عبد الحميد حشيشو وقتله في أيلول عام 1982. ومورست ضغوط تحت حجّة أنّ إدانة أبناء من شرق صيدا، ستخلق مناخاً متوتراً.
أما الحادثة الثانية، فقد جرت قبل أيام في منطقة حارة صيدا ـــــ مجدليون، عندما استنفرت «القوات» لتحويل حادث فردي يحصل يومياً، إلى معركة بين مسيحيي مجدليون وجوارها وشيعة حارة صيدا. وجرت محاولات لاستنفار أهالي قرى شرق صيدا، والقيام باعتصامات ضد أهالي حارة صيدا، لولا تدخّل أحد مطارنة صيدا في اللحظة المناسبة، ولجوء الجيش إلى إجراءات استثنائية حالت دون التجمعات ودون الصدامات.
ليس في تلك المنطقة من يحتاج إلى دليل لمعرفة أنّ استمرار الرئيس بري في موقفه، سيقود إلى كارثة. أمّا الرد بالحديث عن عناد العماد عون، فلا يعبّر عن حقيقة تستوجب التوقّف عندها.
جريدة الاخبار

No comments:

Post a Comment