Sunday, April 25, 2010

مشروع موازنة 2010: إنّهم يشرّعون التهرّب الضريبي

أصدرت وزيرة المال تعليمات تمنع التدقيق في ملف أيّ مكلّف إلا بإذن مسبق منها! (أرشيف ــ بلال جاويش)
أصدرت وزيرة المال تعليمات تمنع التدقيق في ملف أيّ مكلّف إلا بإذن مسبق منها! (أرشيف ــ بلال جاويش)
تستكمل وزيرة المال، ريّا الحسن، النهج السابق المسيطر على مفاتيح الوزارة ووظائفها الأساسيّة، إذ أدرجت في مشروع موازنة عام 2010 بنوداً قانونية من شأنها أن
تعطي وزير المال استنسابية إلغاء إصدار براءات ذمّة مالية، رغم أن هذه البراءة تُسهم بإلزام المكلّف بتسديد ضرائبه. وبالتالي، فإنّ الوزارة تسعى إلى تشريع التهرّب
الضريبي بعد عقود من توفير الحماية للمتهرّبين

محمد وهبة
تحاول وزارة المال تسهيل التهرّب الضريبي وتشريعه، عبر إلغاء الورقة الوحيدة التي تضمن للدولة تحصيل حقوقها، أي براءة الذمة المالية. فقد ورَدَ في مشروع موازنة
عام 2010 مادة قانونية جديدة عنوانها «إمكان الاستغناء عن براءة الذمة»، من شأنها إلغاء كل النصوص القانونية السابقة المتعلقة بإعطاء براءات الذمة، فيما تنيط
بوزير المال تحديد الحالات التي تستوجب إصدار مثل هذه البراءة، أي إنها تعطيه صلاحية استنسابية تضاف إلى صلاحياته الواسعة في الإعفاء من الغرامات ومنع التدقيق
الضريبي عن الأصحاب أو توجيهه نحو الخصوم. وهذا يعني أنها تسعى إلى نسف وظائف الضريبة في لبنان والانقلاب على كل مفاهيمها، وتسهيل تهرّب المكلفين، وما أكثرهم
وما أكثر ثرواتهم غير المشروعة.

إلغاء وظيفة ضريبية

تقول المادة 78 من مشروع موازنة 2010: «خلافاً لأيّ نصّ آخر، تُحدّد حالات إعطاء براءات الذمة المالية المتعلقة بالإدارات والمؤسسات العامة والبلديات واتحادات
البلديات بقرار عن وزير المال». وتشير الأسباب الموجبة إلى أن هذه الخطوة من شأنها «تسهيل أمور المكلفين بعد تعميم المكننة في مختلف الإدارات والمؤسسات العامة».
وهذا يعني أن براءة الذمة المالية لم تعد شرطاً لإنجاز معاملات يحتاج إليها الفرد أو الشركة أو المؤسسة، مع الإدارات المذكورة، باستثناء ما يحدّده وزير المال.
ويستند هذا الطرح إلى قاعدة المعلومات الممكننة لدى وزارة المال في كل مكاتبها الرئيسية والفرعية في مختلف المناطق، التي تلحظ الوضع المالي للمكلّف. أي إن التعديل
القانوني، المدسوس في مشروع الموازنة، رأى أن هذه البراءات تعرقل عمل المؤسسات مع إدارات الدولة، وليس لديها وظيفة أو دور في منع التهرّب الضريبي، عبر إجبار
المكلّف على تسوية أوضاعه الضريبية من خلال إلزامه بالحصول على براءة الذمة في كل عمل يتصل بالإدارة العامّة أو المؤسسات العامّة أو البلديات، بما فيها عقود
التلزيم التي ينتفع منها الأزلام والمحاسيب.
تؤكّد الوقائع أن براءة الذمة تؤدي دوراً مهماً، إن استُخدمت كأداة فعّالة لتحصيل وجباية أموال عمومية، وكمانع للتهرّب الضريبي المحمي سياسياً. فبحسب عاملين
في وزارة المال، تمثّل هذه البراءات حلقة متكاملة تربط بين جهتين: المؤسسات والإدارات العامة والبلدية واتحادات البلديات، والمكلّف بالضريبة سواء كان فرداً
أو شركة أو مؤسسة. فالإدارات تحتاج، في سياق قيامها بعملها ومهماتها، إلى أن تتعاقد مع متعهدين وتجّار... وما يستتبع هذه العلاقة التعاقدية من قبض أموال وضمانات
للتنفيذ وغيرها، لكنها تشترط لمشاركة شركات التعهدات والتجارة وسواها في المناقصات أو استدراج العروض أو عقود بالتراضي أو لقبض الأموال، إبراز براءة الذمة كإثبات
على نظافة سجلاتها المالية ونظاميتها. وهذه البراءة لا يمكن الحصول عليها إلا بعد سداد كل الضرائب الواجبة. من جهة ثانية، ومن ضمن العلاقة التي تجمع إدارات
الدولة بالأفراد، كانت براءة الذمة شرطاً لإعطاء المواطن إفادات عقارية معينة أو إفادات خاصة بالمحاكم أو قبض قيمة استملاكات، إذ تُثبت أن المواطن سدّد ما يجب
عليه للدولة.

سوء التحصيل

ما أدى إلى نشوء هذه العلاقة، بحسب خبراء في الضريبة، أن إدارة التحصيل الضريبي في لبنان كانت ضعيفة دائماً، ولم يجرؤ أحد على تطبيق نصوصها القانونية. فلم تقم
وزارة المال بأي إجراءات لحجز أصول المتهرّبين من تسديد الضريبة، بسبب وجود حمايات سياسية ذات طابع طائفي ومناطقي... ويشير المتخصص في الشؤون الضريبية، عبد
الرؤوف قطيش، إلى أن هذه البراءات «ضرورية لحفظ حق الدولة ما دامت فعالية التحصيل ضعيفة أو معدومة. فإذا ألغيت وفق النص المقترح في المشروع، فسنواجه مشكلة في
تحصيل أموال الدولة، وستستفيد فئة من الناس من الإعفاءات التي ستصدرها وزارة المال».
ويلفت إلى أن إقرار هذا الاقتراح يجب أن يكون مقترناً بتفعيل آليات التحصيل والجباية الضريبية. فالمعروف أن التصريح الضريبي، اليوم، يجري عبر التصريح العادي
(تصريح شخصي للأفراد أو الشركات...). لكن الدوائر المختصة في وزارة المال تُجري مراجعة لهذه التصاريح، وغالباً ما تكتشف أن معظم هذه التصاريح ينطوي على ضرائب
غير محصّلة لأسباب مختلفة، منها عدم المعرفة أو التهرّب المتعمّد... إلا أن ضعف إدارة التحصيل والجباية يؤدي إلى إهمال الواجبات التي «تبقى متروكة على همّة
صاحب العلاقة، الذي لا يسدد إلا إذا أُجبر من خلال حاجته إلى براءة الذمة المالية».

السيطرة على التشريع

ويروي قطيش ما جرى خلال أيام الرئيس كميل شمعون، حين أوقف العمل ببراءة الذمة الماليّة، ثم أعيد العمل بها لاحقاً بنص ليس له فعالية، «لكنهم اكتشفوا أن إصدار
مثل هذه الوثيقة وربطها بعمليات يقوم بها المكلف مع الدولة، كان يجبره على تسديد ضرائبه فأعادوا لها دورها الأصلي».
وبصرف النظر عن مدى دستورية لجوء وزارة المال إلى تضمين الموازنة العامة أموراً تشريعية يجب أن تناقش في إطار سياسة الدولة الضريبية، فإنّ وزارة المال قرّرت
أن الدور الوظيفي لهذه البراءة ليس مطلوباً، فعملت على نسفه تدريجاً. غير أن أصحاب هذا النهج في وزارة المال قرروا سلوك طريق أقلّ حدّة، فعملوا على إلغاء هذا
المفهوم الضريبي تدريجاً عبر تقليص التعامل في براءة الذمة المالية، بذريعة أنها تأخذ وقتاً من الموظفين ولا تسهّل عمل مؤسسات القطاع الخاص.
ففي أيلول 2005، أصدر وزير المال التعميم رقم 1686، محظراً على الإدارات العامة التعاقد مع أشخاص طبيعيين أو معنويين ما لم يرفقوا معاملاتهم بصورة عن شهادة
تسجيلهم في وزارة المال، بما في ذلك «الدخول في مناقصات أو استدراج عروض أو بالتراضي...»، وبذلك «استُغني عن تقديم براءة الذمة واستُعيض عنها بشهادة تسجيل».
بعد ذلك صدر التعميم رقم 446 في آذار 2006 الذي عمّم هذه الإجراءات على باقي المؤسسات العامة، فأُلزمت بعدم دفع أي مبالغ تزيد قيمتها على 3 ملايين ليرة إلا
بعد الاستعلام عن وضعها الضريبي من مديرية الخزينة، أي بلا براءة ذمة. ويقول التعميم: «بذلك استُغني نهائياً عن براءة الذمة المالية لأي تعاقد». واستكمل وزير
المال جهاد أزعور هذا النهج في حزيران 2006، حين أصدر تعميماً «يحظر فيه على دائرة تحصيل بيروت وجميع المحتسبين المحليين إصدار أي براءة ذمة مالية صالحة لقبض
الأموال من الإدارات والمؤسسات العامة، ما عدا تعويض الاستملاك، وكذلك إصدار أي براءة ذمة صالحة للدخول في المناقصات أو استدراجات العروض وما شابه».

ثُغَر التطبيق

ومن أبرز مساوئ هذا الإجراء، أنه يتناغم مع الثُّغَر الموجودة في قانون الإجراءات الضريبية ومع الحمايات السياسية في لبنان. فبحسب قطيش، لم يكن هناك مرور زمن
على تحصيل الضرائب في لبنان، فقد كانت الإدارة الضريبية في ذلك الوقت تصدر إنذاراً عاماً للمكلفين بوجوب تسديد ضرائبهم، وبمجرد نشر الإنذار يتوقف مرور الزمن
ولا تسقط أي ضرائب واجبة، ما يحفظ حقوق الدولة على نحو دائم، ويمنع أي تهرّب من الضريبة. إلا أن قانون الإجراءات الضريبية الجديد «حدّد مرور الزمن على الضرائب
بعد 4 سنوات أو 5 سنوات في الحد الأقصى، إذا لم تحصّل الضريبة الواجبة على المتخلفين، أي إن هذه الضرائب تسقط بعد مرور هذه الفترة».
وبالتالي، بات تنفيذ قانون الإجراءات الضريبية على المحكّ، إلا أن مسؤولي وزارة المال يشيرون إلى أن قانون الإجراءات الضريبية ربط سقوط الزمن بعدم اتخاذ الإجراءات
التنفيذية، ما يوحي بأن الضريبة لن تسقط أو أن وزارة المال ستحجز أملاك المتهربين وستبيعها بالمزاد العلني. غير أن هؤلاء المسؤولين يؤكدون أن إجراءات التنفيذ
أمر يستحيل بلوغه في لبنان، فهي تقسم إلى شقين: الأول إداري تُجبر الإدارة الضريبية على تنفيذه لكونه أمراً خاضعاً لرقابة ديوان المحاسبة، والشق الثاني يتعلق
بالبدء بإجراءات التنفيذ والحجز على عقارات المتهرّبين وأملاكهم.

الجريمة بلا عقاب

محمد زبيب
ليس هناك حالات كثيرة أُحيل فيها مرتكبو جرائم مالية على القضاء. وليس هناك حالات كثيرة طبّق فيها القضاء أقصى العقوبات على الذين ثبت تورّطهم في هذه الجرائم،
ولا سيما منها التهرّب من تسديد الضرائب. فالمعلومات المتداولة تفيد بأنّ أكثر من نصف الضرائب المباشرة على الأرباح والتوزيع والمداخيل لا تُسدّد، وأكثر من
نصف المؤسسات مكتومة، وأن أكثرية المؤسسات الكبيرة المسجّلة تعتمد نظام «الدفترين»، كما أن أكثرية المكلّفين الكبار يعمدون إلى دفع الرشى لخفض قيم الضرائب الواجبة
عليهم عبر غضّ النظر عن التلاعب بالحسابات والتخمينات المختلفة.
هذا الواقع معترف به رسمياً، إلا أن «الثقافة الريعية» المعمّمة تتعامل معه بوصفه «شطارة خالصة»، لا «جريمة نكراء» يعاقب عليها القانون بشدّة... ولذلك يعمد
وزير المال ومجلس الوزراء والمجلس النيابي إلى إدخال تعديلات متتالية لتفريغ القوانين والأنظمة من أيّ فعالية في مواجهة هذه الجرائم المالية.
على سبيل المثال، أصدرت وزيرة المال أخيراً تعليمات مشددة تمنع مديرية الواردات بموجبها من التحرّك تلقائياً للتدقيق في ملف أي مكلّف إلا بإذن مسبق منها! ويتردّد
أن مراقبين مُنعوا فعلياً من متابعة ملفات. كذلك عمدت وزيرة المال إلى إجراء تشكيلات في الوزارة تهدف إلى الإمساك بمفاصل الإدارة الضريبية على مستوى الفئة الثالثة
وما دون، بعدما كان أسلافها قد أحكموا القبضة على المفاصل في الفئات الأعلى.
لا ينحصر السلوك في هذه الجوانب الفضائحية، بل يتعداه إلى إصدار قوانين تعفي مرتكبي الجرائم المالية من الملاحقة عبر تسوية أوضاعهم وإعفائهم من الغرامات، وهذا
ما يسعى إليه مشروع موازنة عام 2010 الذي نصّ على الكثير من الإعفاءات والمكافآت لمرتكبي الجرائم المالية، ولا سيما في موادّه 44 و45 و57 و58 و59 و66 و70 و74
و79 و90 و91 و92 و93 و98... وقد يكون بعض هذه الإعفاءات والمكافآت مبرراً في حالات معينة، إلا أن المستغرب أن تنص المادة 66 من المشروع على منح وزير المال صلاحية،
مطلقة وعامّة ودائمة، لخفض 90% من الغرامات، التي تتولى مديرية المالية العامّة في الوزارة فرضها وجبايتها، مهما كانت تسميتها، وذلك بموجب قرار تنظيمي يصدر
عنه. وهذا يعطي الوزير سلطة استنسابية هائلة، تنطوي على احتمال الكسب بوسائل غير مشروعة، إذا أراد هو ومن حوله أن يفعلوا ذلك، إذ تفسح الاستنسابية المجال أمام
طلب الرشى ما دام القانون لم يحدد أسس الإعفاء ولا المستفيدين منه ولا المهل لمنحه! وما يزيد من الشكوك أن المادة 70 من مشروع القانون نفسه ألغت أصلاً 90% من
الغرامات التي تتضمنها أوامر التحصيل الصادرة عن الإدارات والمؤسسات العامّة والبلديات واتحادات البلديات، بشرط أن تؤدّى خلال مهلة 6 أشهر من صدور هذا القانون،
فلماذا يُمنح الوزير سلطة مستمرة في هذا المجال؟
هناك رعاية جدّية لمرتكبي الجرائم المالية. فمن يلتزم بالقوانين والأنظمة يُعاقَب، ومن يخالفها يُكافأ. هذا هو المنطق السائد، والكل مشتركون فيه، على الرغم
من صراخ البعض أنه لا يريد زيادة العجز المالي وزيادة الدين العام.
جريدة الاخبار

No comments:

Post a Comment