Monday, April 19, 2010

مار مخايل ــ النهر... في انتظار البرابرة
معمار وديزاين وثقافة وطبخ تحت لواء «النوعيّة»
(مروان بو حيدر)حارة بيروتيّة أخرى في مهبّ التحوّلات المعماريّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة. الطابع الشعبي والتراثي، يتعايش فيها اليوم مع الفضاءات المستحدثة، لكن إلى متى؟ في انتظار تدفّق الرساميل التي ستمزّق النسيج السكّاني، وتُبَدّل ملامح المكان، جولة على حيّ يستمتع بحاضره، ويؤجّل الأسئلة المقلقة...
زينب مرعي
يوماً بعد آخر، في سياق تبدّل ملامح بيروت، وإعادة تشكّلها حسب معايير واعتبارات ومصالح جديدة، تتّخذ بعض أحياء المدينة صفات محددة. هنا منطقة للحانات والسهر، وهناك «وسط تجاري»، وهنالك غيتو أغنياء لم يعد يحقّ للمواطن حتّى أن يتمشّى في شوارعه... هكذا، بعدما شهد حيّ الجمّيزة البيروتي العريق، التحوّلات العنيفة والصاخبة التي غيّرت ملامحه، وهدّدت عمرانه وسكّانه الأصليين، يزحف التغيير تدريجاً إلى حيّ «مار مخايل النهر» المجاور. يكفي أن تعبر شارع غورو، وتجتاز مفترق طلعة «صوفيل» ثم شركة الكهرباء، كي تدخل تلك المنطقة الهادئة التي بدأت تهبّ عليها رياح التغيير (راجع البرواز)...
لكن على عكس أماكن أخرى، تبدو هذه المنطقة وقد تأقلمت حتى الآن مع المدّ الزاحف. كل شارع هنا يأخذ منحى خاصاً به، أو قد تجد في الشارع ذاته اتّجاهات عدة. لسنوات، لم تكن المنطقة تعاني أزمة هويّة. كانت منطقة صناعية مزدهرة. يقول توفيق معماري، ابن المنطقة الثمانيني، وصاحب محل «الحرفي اللبناني» إنّ مار مخايل النهر وجارتها الجميزة والكرنتينا كانت منطقة يتراصف فيها النجّارون والحلاقون، والإسكافيون وبائعو السمنة وأصحاب الخمّارات. ويتذكّر ميشال عون الذي افتتح والده «أول مطعم في مار مخايل عام 1948» أنّه «في تلك الفترة، كانت المنطقة ورشة بناء كبيرة. ثم صارت أول منطقة صناعيّة في لبنان».
في الأربعينيات والخمسينيات، نشطت عمليّات البناء في «مار مخايل» التي توافد إليها الأرمن بين 1914 و1920، ثم حوّلوها إلى منطقة صناعيّة. وليس صعباً اكتشاف الجزء الأرمني من هوية المنطقة، إن كان من شبّانها الذين يصيحون بالأرمنيّة أو من «مخرطة بسمجيان» في آخر «شارع فرعون» الثابتة هناك منذ 50 سنة.

خلال تجوالك في المنطقة، قد تلتقي ببطل لبنان للملاكمة في الستينيات، وقد صار إسكافياً وحيداً في ركنه الصغير. لم يبقَ من أيام سركيس تاكيريان الرياضيّة سوى كرتونة صغيرة يعلّقها على زجاج محلّه «اختصاصي فكش/ مسّاج طبّي». تلك الحرف بدأت تنحسر مع المحال الصغيرة في الحرب الأهليّة. لكن ما بقي منها كان كافياً كي يبقى لهذه المنطقة طابعها الخاص... ثم ظهرت محال جديدة. المصمّمة لينا عودة كانت أول من افتتح فرعاً لمحلها «ليوان» الباريسي في «مار مخايل»، بين كاراجات تصليح السيارات ودكاكين الحرفيين الصغيرة. تقول مديرة الإنتاج في «ليوان» (بيروت) ايديت موصلي إنهم اختاروا افتتاح «محل الحرفيات الحديثة» في مار مخايل عام 2006، «وكانت لا تزال منطقة عذراء، كي نستفيد من حرفييها».
بعد «ليوان»، كرّت السبحة. توافد المصممون والمعماريّون على المنطقة، أقلّه في شارعي «مدريد» و«فرعون». هكذا، افتتحت مهندسة الديكور والمصممة ماريا هاليوس مكتبها مع صالة العرض maria halios design عام 2009، والمعماري كريم بكداش Karim Bekdache studio مع بداية 2010. وقريباً، تفتتح مصمّمة الأزياء نيلا نمّور محلها Pink Henna للأكسسوارات. ولا ينبغي أن ننسى papercup، المكتبة ـــــ المقهى التي تركّز على الفنون البصريّة، في بناية «هاغوبيان». أفاد كلّ هؤلاء من الإيجارات المنخفضة نسبياً، ومن محال فسيحة لها تاريخ، ولكلّ منها طابعه المميّز.
يذكّر كريم بكداش بنموذج سوهو وتشيلسي في نيويورك: «منذ 30 سنة، امتدّت الغاليريهات الفنيّة إلى منطقة سوهو الصناعيّة، ثم وصلت إلى منطقة تشيلسي. اليوم، نجد في هاتين المنطقتين أفخم محال الملابس والغاليريهات المشهورة. هنا في «مار مخايل النهر» لم يجتَحْ الوافدون الجدد المنطقة كلها حتّى الآن. كما أننا لسنا الأفخم، لكننا نستفيد من المساحات الواسعة للمحال، ومن هدوء المنطقة». مع ذلك، فالمنطقة تتغيّر بسرعة.
محترفات ومكتبات وحانات، وحيّ شعبي يستقطب البوهيميا العصريّة... لكن إلى متى؟
مع تحوّل معالم الحي، أعرب بعض السكّان والحرفيين عن مخاوفهم، وخصوصاً بعد ارتفاع أسعار العقارات. يخبرنا بسمجيان، صاحب المخرطة، عن بيع ثلاثة مبان قديمة محاذية لمخرطته «عرفنا أنها بيعت لخليجيين وستُهدم لإنشاء مركز تجاري ومكاتب. حتى مبنى المخرطة بيع، لكن لا أعرف متى سيطلبون منّي الرحيل».
على الطريق العام لـ«مار مخايل»، يختلف المشهد قليلاً. هنا بدأت تظهر مطاعم وحانات تبدو امتداداً للجميزة، لكنها ليست بالكثافة المقلقة نفسها... أصحاب هذه الأماكن يراهنون على الخصوصيّة والاختلاف، على أمل ألا يسحقهم قريباً المد الذي تفرضه عدوى الموضة. تومي طبيب وزوجته الإيطاليّة سيلفيا، هربا من الطابع الموحّد لحانات الجمّيزة ليفتتحا حانتهما الإيطالية L>Osteria في مار مخايل. في زاوية خاصة أيضاً من الطريق العام، افتتح مؤسس سوق الطيّب كمال مزوّق مع كريستين قدسي مطعم «طاولة». المطعم بالنسبة إلى مزوّق هو جزء من سوق الطيّب، يهدف إلى دعم صغار المنتجين والمزارعين، ويحاول استخدام المنتجات العضويّة.
هكذا يتعايش المستحدث مع القديم في «مار مخايل»، ويستفيد منه... حتّى الآن. النتيجة حيّ عصري ـــــ شعبي ـــــ بوهيمي، على الموضة، يجمع بين الثقافة والفنّ والمهن المبدعة، والبزنس وحياة الليل، والفكرة التنموية التي تراهن على النوعيّة. حي قد يكون قدوة في التطوّر الهادئ والخصب الذي لا يشوّه الطابع التراثي، ولا ينكّل بالطبقات الدنيا... لكن إلى متى سيصمد في وجه الهبّة العشوائيّة، وجشع المضاربين العقاريّين، والعمارات الفخمة التي ستحلّ مكان بيروت القديمة؟
جريدة الاخبار

No comments:

Post a Comment