Friday, September 30, 2011

> المسيحيون بين خيارات الراعـي و«جرأة» جعجع

المسيحيون بين خيارات الراعـي و«جرأة» جعجع
اقترح جعجع الجمعة أن تنتخب كل طائفة نوابها وشدد السبت على «عدم الانزلاق إلى قمقم التقوقع الأقلّوي» (أرشيف ــ هيثم الموسوي)

ضحك كثيرون حين كتبت «الأخبار»، عشية انتخاب بطريرك جديد في 4 آذار 2011: جعجع في مواجهة البابا. قال هؤلاء إن الصحيفة بـ«مانشيت» كهذا تُكبّر جعجع. لكن الحقيقة
تظهر يوماً تلو الآخر، من اجتماع الموارنة الأخير في بكركي إلى احتفال القوات السبت: المسيحيون مدعوون إلى الاختيار بين خيارات الفاتيكان وبطريركيتهم، وخيارات
سمير جعجع وسامي الجميّل

غسان سعود

تأكّد يومي الجمعة والسبت الماضيين ثبات رئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية، سمير جعجع، في القوات اللبنانية، حيث كانت يوم انتسب إليها مع مطلع الحرب
الأهلية. لا تغيير. كل التحالفات والاعترافات بالأخطاء كانت لحظات عابرة. ثبت في هاتين المناسبتين تناقض خطاب جعجع ومشروعه مع كل المعاني التي تحملها كلمتا
شركة ومحبة.

يوم الجمعة قالها جعجع صراحة: «فلينتخب المسيحيون نوابهم والمسلمون نوابهم». لماذا نضحك على أنفسنا والآخرين؟ هم مسلمون ونحن مسيحيون. فلينتخب كل منّا في هذا
البلد مسؤوليه، وليُدر شؤون طائفته كما يشاء. فلتسقط الشركة والمحبة في موضوع الانتخابات، إذ تبيّن أن انتخاب كل طائفة لنوابها أسهل من إقناع مناصر تيار المستقبل
بانتخاب قوّاتي، أو إقناع رئيس تيار المستقبل بترك شريكه المسيحي يختار المرشحين المسيحيين على لائحته. فلتذهب شراكة القوات اللبنانية وتيار المستقبل كما شراكة
التيار الوطني الحر وحزب الله إلى الجحيم. لا شراكة في تحالفات على مستوى الوطن، ولا شراكة في الطائفة الواحدة حيث يفترض أن تخاض المعارك الطاحنة. هتف جعجع
مع إيلي الفرزلي إذاً: حرية سيادة استقلال... لمذاهبنا. ذهل بعض المطارنة الذين كانوا حاضرين. تهامسوا مردّدين: «يقول الحق، صراحة. هكذا يتحقق التمثيل الحقيقي
والعادل للمسيحيين». حتى السفير السابق عبد الله بو حبيب الذي لم يجمعه في السابق ودّ مع جعجع، خرج مردّداً: «كان الحكيم محقّاً هذه المرة. تصرّف كزعيم مسيحيّ
حقيقيّ يعطي الأولوية لمصلحة طائفته على حساب كل التفاصيل الأخرى». أثبت جعجع لنفسه، وبعض الآخرين، أن مصلحة المسيحيين تتقدم عنده على كل المصالح الأخرى، بما
فيها مصلحة البلد والعيش المشترك وكل العبارات الطنّانة الأخرى.
في اليوم التالي، أكمل قائد القوات المهمة. ذهب مباشرة إلى «حيث لا يجرؤ الآخرون». كل مشكلة الفاتيكان منذ أربعين عاماً، منذ أخرج بشير الجميّل الكرسي الرسوليّ
عن طوره ودفعه إلى إعلان الموقف تلو الموقف المندّد بخيارات القوات اللبنانية السياسية، أن «المسيحيين في هذا الشرق»، كما يقول جعجع حرفياً، «هم بالفعل دائماً
حيث لا ولم ولن يجرؤ الآخرون». يذهبون إلى حيث لا يجرؤ الآخرون، ثم يأتون إلى الفاتيكان باكين وشاكين: لم نعد نستطيع أن نوصل بأصواتنا ثلث النواب المخصصين لطائفتنا.
يذهبون إلى حيث لم ولن يجرؤ الآخرون، ثم تُشغَل فضائياتهم بتصوير الأمهات يندبن فوق قبور أبنائهن وحقائب سفرهم. ما الذي يجبرهم على ذلك؟ جعجع. لماذا؟ لأن جعجع،
كما يقول، «لا يخاف أحداً، ولن يخاف من أحد، ولا يريد ضمانات من أحد».
قد يكون طبيعياً أن يهبّ كل مسيحيّ يستمع إلى جعجع عن كرسيه مصفّقاً، سعيداً بزعيم الطائفة القويّ. لكن الرجل المتكلم قد جُرّب، وخياراته «حيث لا ولم ولن يجرؤ
الآخرون» جُرّبت أيضاً. ونتيجة ذلك على المسيحيين كانت، باختصار شديد، كارثية. «حيث لا ولم ولن يجرؤ الآخرون» أثمرت التهجير الأول من الشمال، والثاني من شرق
صيدا، والثالث من الشوف وعاليه، والرابع من مؤسسات الدولة. «حيث لا ولم ولن يجرؤ الآخرون» كانت انتحاراً. «حيث لا ولم ولن يجرؤ الآخرون» كانت السبب في إطلاق
البطريرك السابع والسبعين للطائفة المارونية شعار الشركة والمحبة عنواناً.
في مجالسه الخاصة، برّر البطريرك بشارة الراعي مواقفه في باريس وأثناء استقباله السفيرة الأميركية في بكركي برغبته في الحصول «على ضمانات جدية من الدول العظمى
بشأن حماية الوجود المسيحي في الشرق، مهما كانت التغييرات المرسومة للمنطقة، كما يريد ضمانات من القوى الإسلامية المطالبة بديموقراطية لا ترى منها إلا حكم الأكثرية».
يوم السبت، ردّ جعجع على البطريرك مباشرة بالقول: «نحن هنا، لا نريد ضمانات من أحد». اعلم أيها الراعي: «لن نساير، لن نتلوّن، لن نستجدي أمناً ولا أماناً».
اسمع أيها الراعي: «نحن لا نخاف أحداً، ونعرف كيف نتدبر أمرنا». افهم أيها الراعي «إما أن نعيش قيمنا ومبادئنا واقتناعاتنا، أو على الدنيا السلام». احذر أيها
الراعي «لن نقبل بتزوير تاريخنا وهويّتنا». على المسيحيين، في نظر جعجع، أن يكونوا رأس الحربة في كل قتال يخوضه الحق (بحسب تصنيف جعجع طبعاً) في مواجهة الباطل.
هذه هي المهمة التي انتدبهم جعجع للقيام بها. وهذه المهمة ــــ الرسالة تتناقض مع رسالة الفاتيكان «الشراكة والمحبة» التي يرى الكرسي الرسوليّ أنها خير وسيلة
لتثبيت المسيحيين في أرضهم.
بين الجمعة والسبت، يظهر جعجع تناقضاً هائلاً. ففي اللقاء الماروني تحدث بإسهاب عن وجوب التنبّه من النسبية في ظل التطوّر الديموغرافي، معتبراً أن عدد المسيحيين
يجعل من فدرالية المقاعد النيابية، أو انتخاب كل طائفة لنوابها، وسيلة وحيدة لفوز المسيحيين بأصواتهم بالمقاعد النيابية المخصصة لهم. يظهر خلال ذلك الاجتماع
معرفته العميقة بخطر التحوّل الديموغرافي الذي شهده البلد، وبوجوب «إعلان المسيحيين حالة طوارئ» لإعادة عقارب الشراكة إلى الوراء. حتى البطريرك الذي يعلم أن
الشراكة والمحبة لا تكونان عبر انتخاب كل طائفة لنوابها، يظهر تفاعلاً إيجابياً مع مداخلات جعجع المبنية على فهم أوّليّ لوضع المسيحيين الانتخابي. ثم، وبعد
يوم واحد، يرى جعجع أن «الوجود المسيحي في لبنان والشرق ليس وجوداً عددياً ومادياً»، وليس مبرراً بالتالي هذا القلق الفاتيكاني والبطريركي من تناقص أعداد المسيحيين
في الشرق. جعجع مرتاح. لمن يقول جعجع «إنّ حقّنا في الوجود والتفاعل الحيّ حقٌ مكتسبٌ، وليس منّةً من أحدٍ»؟ الراعي يعرف ذلك، يحاول إقناع الغير به. جعجع نفسه
كان يبحث في كيفية إقناع الآخرين به قبل يوم واحد. يبحث الراعي عن أمان لمجموعته الدينية بين جنّة الذميّة و«جهنّم» الحرية التي يعتبرها جعجع «أفضل منزل». يبلغ
تناقض جعجع الذروة: يقترح يوم الجمعة أن تنتخب كل طائفة نوابها، ويقول يوم السبت «يحتّم علينا دورنا الطليعيّ عدم الانزلاق إلى قمقم التقوقع الأقلّوي».
«رفيقاتي، رفاقي»، يتابع جعجع: «خوف (الراعي) من التطرّف مبرّرٌ ومشروعٌ، لكنّ هذا الخوف لا يبيح (للراعي) المحظورات»، ولا يفترض «انقلاباً جذرياً على كلّ القيم
الإنسانيّة والمسيحيّة». يتّهم قائد القوات بطريرك الموارنة، إذاً، من دون أن يسمّيه، بالانقلاب على كل القيم الإنسانية والمسيحية، على خلفية كلامه الباريسيّ.
ويطمئنه إلى أنه إذا ظهر تطرّف في مكان ما (لاحقاً)، لن يكون موقف جعجع منه أقل حدّة، ومواجهته له أقل شراسة، فـ«لنا في هذا المجال صولاتٌ وجولات».
يفترض الراعي أن المسيحيين تعبوا من هذه الصولات والجولات وعليهم البحث بالتالي عن ضمانات تجنّبهم مثيلاتها. أما جعجع فمطمئن من كثافة الحاضرين قبالته في ملعب
فؤاد شهاب إلى جهوزية هؤلاء لصولات وجولات. في السابق كان جعجع يخاطب اللبنانيين، أما الآن فترد العبارة حرفياً في خطابه كالآتي: «رفيقاتي رفاقي، أيّها المسيحيون».
شراكة ومحبة! أيها المسيحيون: «لن نعيش ذمّيين، هذا موقف حياةٍ أو موتٍ بالنسبة لنا». ومرة أخرى: «لا تخافوا، إذا كان الله معكم فمن عليكم؟».
لاحقاً يقتبس جعجع الكثير من خطابات النائب سامي الجميّل بشأن سلاح حزب الله، لينتهي إلى تذكير الراعي بأن بطاركة الموارنة هم الذين «افتتحوا مسيرتنا في النضال
والمقاومة منذ 14 قرناً، وعلّمونا أنّ الموت بحريّة وكرامةٍ في كنف جبالنا الصعبة خيرٌ لنا ألف مرّة من العيش أذلّاء صاغرين في ذمّة طاغيةٍ من هنا أو ديكتاتورٍ
من هناك». قم سيدنا، إذاً، كفاك ذلاً وصغراً.
بعيداً عن جمهور القوات اللبنانية الذي سيصفّق لقائده بغض النظر عن مضمون خطابه، كثيرون صفّقوا مبتهجين بجعجع الكرامة والشعب العنيد، لكنّ هناك كثيرين شدّوا
على سبحاتهم، مردّدين: «الله ينجينا».

يسأل بدل أن يجيب

يفترض سمير جعجع وجوب عدم أخذ العبر السلبية من الماضي. «انظروا إلى الماضي بإيجابية، تجدوها». يرى أنصار القوات في نقاشاتهم أن خيارات القوات في الحرب كانت
مناسبة مئة في المئة. فلولا «الفيلد» والسلاح الإسرائيلي والاندفاع للدفاع عن النفس لما بقي مسيحي واحد في هذه البلاد. يجاريهم في هذه الأقاويل جزء كبير من
العونيين، فيما يستمع إليهم الآخرون من مردة وغيرهم صامتين. يبني جعجع استراتيجيته على ذلك. يصفّق كثيرون له في ملعب فؤاد شهاب وبعيداً عنه. فيذهب أبعد وأبعد
في رهانه على عدم وجود ذاكرة جماعية تحدّد المسؤوليات وتأخذ العبر، إلى حدّ التساؤل علانية وأمام الآلاف حرفياً: «من هاجم المسيحيين في لبنان (في الصفرا ونهر
الموت مثلاً)؟ من قتلهم (في إهدن وبعبدا ومذكرات ريجينا صنيفر مثلاً)؟ من دمّر كنائسنا (دير كرم سدة ومطرانية زحلة مثلاً)؟ من فجّر كنيسة سيدة النجاة (من؟)؟
من قصف الأشرفية، وزحلة، وعين الرمّانة وعيون السيمان (من؟)؟ من اعتقل وأخفى واغتال رجالنا من رهبانٍ (مونسنيور خريش، رهبان دير مار يعقوب ــــ كرم سدة مثلاً)،
وعلمانيين (القواتيين الياس الزايك وسمير زينون والياس خوري الذي قتل بالطريقة نفسها التي قتل بها الوزير السابق بيار الجميّل، ويوسف الشب فرنجية مثلاً)، وعسكريين
(ضباط الجيش اللبناني في عمشيت والعميد خليل كنعان مثلاً) وسياسيين (إيلي الفرزلي وميشال المر وأمين الجميّل مثلاً)؟ قولوا لنا بربّكم، من أمعن في المسيحيين
(أو من سبّب للمسيحيين) قمعاً وتنكيلاً وسجناً ونفياً واضطهاداً وتهميشاً وأقصاهم عن أي دورٍ فعليّ ، وساهم في هجرتهم؟». بعد كل ذلك يعود جعجع ليقول: «لا نخاف
أحداً، لن نخاف من أحدٍ، نعرف كيف نتدبّر أمرنا». مشكلة جعجع مع البطريرك بشارة الراعي والكرسي الرسولي وكل من ينادي بالشراكة والمحبة أنهم سيبقون «دائماً أبداً
أمناء لأنفسنا ولتاريخنا».

No comments:

Post a Comment