Wednesday, September 28, 2011

ملــح الأرض
عباس خلف
فتحت تصريحات البطريرك بشارة الراعي خلال زيارته فرنسا في الأسبوع الثاني من أيلول، نقاشاً واسعاً محلياً ودولياً. لن أناقش ما قاله السيد البطريرك حول سوريا
أو سلاح «حزب الله»، بل يهمني أن أركز على نقطة مركزية وهي الخوف من أن تؤدي التغييرات السياسية في أنظمة بعض البلدان العربية، وخاصة في سوريا، إلى اضطهاد المسيحيين
أو الإضرار بمصالحهم وبالتالي إلى دفعهم للهجرة من لبنان وأقطار عربية أخرى.
لا شك في أن هناك مبررات مشروعة للخوف على مصير المسيحيين في الشرق، فأحداث العراق ومصر، ولو بصورة أخرى، لا تزال ماثلة في الأذهان. والتمييز ضد المسيحيين وعدم
إنصافهم في الوظائف العامة والتمثيل السياسي في بلدان عربية أخرى، أمر معروف ومشكو منه بشكل متواصل، وهو قد ساهم بشكل مباشر في هجرة أعداد كبيرة من المسيحيين
إلى بلدان الغرب، مما نتج عنه خفض كبير في نسبة الوجود المسيحي، خاصة في فلسطين والعراق، والى حد ما في سوريا والأردن.
لا بدّ من الملاحظة ان هناك اسباباً اخرى تفاقم منسوب الخوف من المستقبل لدى المسيحيين في لبنان، بعضها خارج عن إرادتهم وبعضها الآخر يتحمل مسؤوليته المسيحيون
أنفسهم، وتحديداً قياداتهم السياسية والدينية.
الأسباب الخارجة عن إرادة المسيحيين اللبنانيين، تتلخص في التطورات الإقليمية التي قد تنتج أنظمة سياسية متشددة لا تعامل المسيحيين، وربما سواهم من الأقليات،
بالمساواة والاحترام المطلوبين، بل قد تسمح باضطهادهم احياناً، مما يدفعهم الى الهجرة. إن التغيير السياسي الذي حصل في مصر، وهي التي تضم نسبة وازنة من المسيحيين
الأقباط، لا يؤشر الى ان القوى الإسلامية المتشددة ستتمكن من السيطرة على زمام السلطة، وثورة ميدان التحرير شهدت وحدة إسلامية مسيحية رائعة لم تشبها أية ممارسات
مسيئة للمسيحيين الأقباط، الذين شاركوا بفاعلية في هذا التحرك الشعبي. ويؤكد ممثلو الصحافة الغربية الذين غطوا الأحداث في ليبيا، انه لم تتوفر لديهم أية دلائل
على وجود قوى إسلامية متشددة « كالقاعدة» في صفوف الثوار الليبيين. كما يؤكد هؤلاء أن الإدعاء بأن إسلاميين متشددين، كالأخوان المسلمين، يقومون بدور قيادي في
الحركة التغييرية في سوريا، هو ادعاء لا سند له ولا يقوم على اي دليل ثابت. والسائد في أوساط المراسلين الأجانب والمتابعين الحياديين المنتمين لوكالات تابعة
للأمم المتحدة، ان حركات التغيير العربية تتبنى شعارات ليبرالية ديموقراطية، وتناضل من اجل مجتمع يحترم حقوق الإنسان ويؤمن له كرامة العيش والعدالة الاجتماعية.
إذا لماذا خشية بعض المسيحيين المفرطة من تغيير الأنظمة العربية إذا كان توجه قوى التغيير ليبراليا منفتحا وغير طائفي؟ وهل يرضى المسيحيون ان يقعوا فريسة لعبة
الأنظمة في استعمال التخويف من وصول المتشددين الإسلاميين الى السلطة «كفزاعة» ترغمهم على الوقوف الى جانب السلطة والدفاع عنها.
سألت البطريرك هزيم رئيس الكنيسة الأرثوذكسية صبيحة نشر تصريحات البطريرك الراعي في باريس، هل يشاطر البطريرك الراعي الخوف على مصير المسيحيين في الشرق، وخاصة
في لبنان. قال السيد البطريرك، «إننا كمسيحيين مشرقيين جذورنا ضاربة في الأرض العربية من قبل الفتح الإسلامي، ومن عهد السيد المسيح وبزوغ فجر المسيحية. والأرض
أرضنا، وحاضرنا ومستقبلنا هنا وليس في اي مغترب. وبالتالي فإننا لا نخشى على وجودنا وحقوقنا، وندعو أبناءنا الاّ يخافوا مطلقاً».
أمــا أســــباب الخوف الـــناجم عن ارتـــفاع نسبة الهجــرة من لبـــنان، فإننـــي أرجعها الى الأسباب الآتية:
1ـ انسداد الأفق أمام الشباب لندرة فرص العمل المناسب للمتخرجين الشباب، وبالتالي عجزهم عن تأمين سكن لائق ودخل معقول من اجل الزواج وتكوين اسرة.
2ـ الاحباط الذي يجتاح المواطنين، وخاصة الفئة الشابة، من تردي الأوضاع السياسية وفشل الطبقة السياسية الحاكمة في إقامة دولة يعتز اللبناني بالانتماء اليها،
وتخلفها عن العمل الجاد والمدروس لبناء مواطن ولاؤه للبنان اولاً، ومستعد للتضحية من اجله. وما يفاقم هذا الإحباط، ان «الدولة» في لبنان لا تملك زمام قرارها
وبالتالي لا يسعها ان تعد المواطن بمستقبل آمن ومستقر ومزدهر يغريه بالبقاء في لبنان وعدم التفكير في الهجرة.
ماذا عن مسؤولية القيادات الدينية؟
تشكو هذه القيادات دوماً من هجرة الشباب والأدمغة بين المسيحيين بشكل خاص وتقدر خطورة هذا الأمر وتأثيره السلبي على الوجود المسيحي ومستقبله. لكنها لا تقوم
بكل ما يتوجب عليها القيام به للتخفيف من وطأة الهجرة.
صحيح ان الكنائس المسيحية تقوم ببعض الأعمال الاجتماعية والتربوية لمساعدة أبنائها، ولكن المدى الذي وصل إليه سوء الأوضاع الاجتماعية والمعيشية وانعدام فرص
العمل أمام الشباب، تحتم القيام بمبادرات أكبر واوسع نطاقاً وأسرع تنفيذاً. لقد تقدمت باقتراح عسى ان يجد صدى إيجابياً وهو يقضي بإنشاء صندوق مشترك بين الطوائف
المسيحية يمول من إيرادات الأوقاف ومن الأموال التي يمكن جمعها من بيع الأوقاف الجامدة وغير المنتجة، تتولى إدارته هيئة مشتركة من المساهمين، يتم تعيين اعضائها
بشفافية من أصحاب اختصاص وكفاءة ونزاهة.
إن هدف الصندوق المقترح هو المساعدة على تأمين فرص عمل للشباب عن طريق إقامة صناعات إنتاجية صغيرة، وإشادة أبنية لمحدودي الدخل تباع بالتقسيط الطويل الأجل،
بأسعار الكلفة وبفائدة متدنية او من دون فائدة، وبتوفير قروض طويلة الأجل وبفائدة بسيطة لكل من يرغب في إقامة مشروع صناعي او تجاري او زراعي او سوى ذلك من الاعمال
التي تقيه العوز مع عائلته. إن تجربة «حزب الله» (بصرف النظر عن مصادر التمويل) في العمل الاجتماعي والتربوي والصحي وفي تأمين عمل للمتخرجين، وسوى ذلك من المساعدات
الاجتماعية، هي تجربة تستحق الدرس، علها تفيد في تبني بعض نواحيها.
3ـ إن الانقسام السياسي الحاد في الصف المسيحي لا يخدم مصلحة المسيحيين للقيام بدور فاعل ومؤثر في الحياة العامة. كما ان التحاق بعضهم بجبهات خارجية وبمحاور
إقليمية، يجعلهم هدفاً للانتقاد ويكسبهم عداء طوائف وفئات، هم بغنى عن عدائها. إن الانحياز الى جانب الديموقراطية والحريات العامة وحقوق الإنسان، والتضامن مع
قضايا العرب العادلة وحقوق الشعوب العربية في التحرير وإقامة مجتمعات حرة ديموقراطية تؤمن المساواة واحترام حقوق الإنسان لجميع المواطنين، هو الذي يخدم مصلحة
المسيحيين واستقرارهم ومستقبل أجيالهم. ولا بد هنا من الاستفادة من دروس الماضي وتجنب الدخول في تحالفات قد تستدرج عداء أطراف فاعلة، والأخطر طبعاً التفكير
في إقامة «حلف للأقليات» قد يجلب الكوارث للمسيحيين، والماضي خير شاهد على التجارب الفاشلة.
يبقى تمنًّ أخير نوجهه للقيادات المسؤولة في حركات التغيير العربية، وهو ان يصروا ويواظبوا على التذكير ان حركاتهم هي لا طائفية تؤمن بالمساواة بين كل الطوائف
والعائلات الروحية، وذلك تطميناً للأقليات الدينية على مصيرها ومستقبل أجيالها.

No comments:

Post a Comment