Friday, September 30, 2011

ذات صباح في الجنوب ...
Published on الأخبار (http://www.al-akhbar.com)
الصفحة الرئيسية
> ذات صباح في الجنوب ...

ذات صباح في الجنوب ...
جان عزيز

قد تبدو مستحيلة مهمة الراعي في الجنوب منذ محطتها الأولى، قد يتسلل بعض اليأس الى قلوب من يرافقه، وخصوصاً من يذهب الى صور وفي مخيلته مدينة تلك الكنعانية في
الإنجيل، أو الأرض التي اعتادت مريم تجوالها في أسطورة «المنطرة». وقد يظهر الإحباط على الوجوه باكراً، إذا ما دخل «الأسقف» المدينة من صوب البحر. من واجهة
الموج والملح والنخيل الواطئ بثماره هذه الأيام. هناك عند أول «الحارة» تقف مدرسة العائلة المقدسة، لتستقبله على جدارها كتابات ترحيبية من نوع «محمد» و«علي»
و«أمل» وخواطر أخرى. وإذا ما اعتنق الراعي مسكونيته وقرر الانطلاق من عند «الأشقاء» الروم الملكيين الكاثوليك، فسيكون عليه الانعطاف من أمام الترحيب العشوائي
المتروك منذ زمن على جدار قريب: «حارة الإمام القائد موسى الصدر ترحب بكم». وسيُسر الراعي بذكر الإمام. فمثله هو يكرز في الدروب، داعياً الى وحدة ومحبة وشركة
وحقيقة عارية، بلا «زينة». مثله يكتب وثيقة «نهائية الكيان»، ويصارع من يفترض أن يكون له «أماً حنوناً»، ويحتمل من يحسبون له أبناء عقوقين.
بعد المنعطف قد يدخل الراعي كاتدرائية القديس توما، تلك المبنية فوق الأثر الصليبي الصامد. ومثل توما، قد يرفع إصبعه لتعداد المخلَّصين من ويلات الحروب والاحتلالات
وشهوة العاصمة والغرب وترف حياة لم يعرفها الناصري...أقل من ثلاثمئة عائلة هم كل الصامدين. سيستقبلونه بفرح، لكن من دون أمل. بل برجاء، ذاك الشعور الإنجيلي
الذي يصاحب الإنسان في مساره بين انقطاع الأمل الأرضي وانتظار العناية الربانية. وقد يسألهم عن الأحوال وأسباب البقاء والرحيل. وستختلط الإجابات وتتعدد وتتباين.
يكفيه بين سؤال وآخر أن يتطلع الى مذبح مار توما. أين الإيقونوسطاس التاريخي البيزنطي العريق؟ أين «مذبح» الأيقونات الرائعة، خامسة الأناجيل؟ ليجيبه بعض المستقبلين
بخفر وحياء، أن أسقفاً منذ مدة كان قد قرر بيع الكنيسة برمتها. وأنه قد باعها فعلاً، ووضعت يدها عليها مديرية الآثار وبدأ التفكيك...قبل أن يأتي أسقف آخر من
أولئك الذين ورثوا كيان «المدافع عن المدينة»، فيسترد الكنيسة، ويستعيد الأيقونات ولو على الجدران العارية، ويعود إصبع توما شاهداً على القيامة قبالة شاطئ حيرام
وأوروب وإليسار والتاريخ... البيع إذاً، هو البيع أصل كل داء وعلة ووباء. نبيع أرضنا أولاً. بعدها نبيع البيت. بعدها الكنيسة. بعدها الوطن... ومن ثم نمكث في
غابة الإسمنت البيروتية ومقابر أحزمة بؤسنا والضواحي، نحلم بحقيبة سفر ونمضي العمر نبكي «مُلكاً لم نحافظ عليه...».
وإذا سار الراعي في أزقة «الحارة» صوب مرفأ الصيادين، سيحس بقدميه تلامسان التاريخ، وقد يخفف الوطء فوق سِفره المرصوف، حتى يطل على كاتدرائية سيدة البحار، تلك
المخبأة كالدرّ بين أول البيوت وآخر البشر. الوضع هنا ليس بأفضل. لا بل أقل من الملكيين من صمد. لا يزالون يلاعبون الموج والشباك. كأن كل واحد منهم بطرس، مع
أنهم لم يُنكروا، ولم يصبحوا صيادي بشر. ولا يزال سمك صور يعرف وجوههم والقسمات والأيدي الشديدة على الصواري والأشرعة ووخز الزمان. سيتبادلون النظرات التائهة
مع الراعي: ماذا تقدر أن تفعل لنا؟ ماذا نقدر أن نحقق لكنيستنا، نحن من صرنا «حارة نصارى» تتآكلها الأيام مثل واحات المحيط؟؟
وقد تُذرف أكثر من دمعة صامتة أو مكابرة أو هاربة بين العيون، حين يشد الموكب البطريركي رحاله صوب الرحلة الطويلة. لا تزال أمامه علما بأجراسها الفرحة، وقانا
بمنحوتاتها ومفارقة الجليل الذي ليس في الجليل. على باب المغارة «المقدسة»، قد يجدر بصحب الراعي أن يحيدوا نظره عن القاطع المقابل، كي لا يشهد بعينه زحف الاعتداءات
الجارف للأملاك العامة والخاصة واندثار مفهوم الدولة وثقافتها، قبل أن يصل الى رميش، «عاصمة» الصامدين في «القطاع الشرقي». هناك سيكون بأمس الحاجة الى «سلاح»
الدولة ليقنع الناس بالانتصار على غرائز البقاء والحياة كيفما كان. ولن يحار بحثاً في رميش. تكفيه ذكرى فرانسوا، ذاك البطل الذي سقط كبيراً بعدما أنجز التاريخ
حفراً بيد وقلب وجرأة، ليتمتع به من بعده من يعوزهم كل ما كان يفيض في فرانسوا...
لتظل محطة الراعي الأكثر دقة وصعوبة، في القطاع الشرقي، في القليعة وبعض الجوار. هناك تنتظره عيون يسكنها القلق، ويعتاش من مائها الانتظار منذ عقد ونيف. هناك
عائلات لم تختم جراحها، ولم تعلن حدادها. تحيا في دوامة أن تكون متهَمة ومتهِمة. لم تشارك في الانتصارات، ولم تلغها الهزائم. لم تعبر الى الوطن، ولم تغادره.
تقف عند الحد الفاصل بين إيمان وكفر. هناك تتجسد أكثر استحالة مهمة الراعي في الجنوب. لكنه يذهب. كمن لا مستحيل عنده. هو من يحول الخبز والخمر كل صباح، فكيف
يُسأل عن مستحيل ذات صباح في الجنوب...

No comments:

Post a Comment