Monday, September 19, 2011

> ماذا سيقول بييتون للبطريرك إذا ما استقبله؟

ماذا سيقول بييتون للبطريرك إذا ما استقبله؟
جان عزيز

يجلس السفير الفرنسي دوني بييتون، سعيداً في قصر الصنوبر التاريخي. يسكن المكان، ويسكنه زهو بأفضال بلاده على هذه الأرض. يُعدّ لمهمته التالية: قبل يومين أعلن
أن حكومته طلبت منه رسمياً الذهاب الى البطريرك الماروني، للاطلاع منه على حقيقة مواقفه التي «خيبت» فرنسا.
يفلش السفير أوراق التاريخ أمامه. يجهد بحثاً عما يزكّي حق حكومته في «الخيبة» من صاحب الغبطة. وكلما طلعت بيده وثيقة، ازداد وجهه تجهماً، ويداه عصبية. يمزق
أوراق أسلافه وتاريخهم ويلعن حظه.
اتكل بدايةً على غورو. سأصعد الى البطريرك مستذكراً أمامه تاريخ الأول من أيلول 1920، في هذا القصر بالذات. وبحضور سلفه الحويك. وكيف وهبناهم دولة لبنان الكبير.
ستكون حجة قوية لأنتقل الى معاتبته على موقفه من سوريا. قبل أن يُحبط مجدداً، إذ تطلع بين يديه ورقة أخرى، مؤرخة بعد عام واحد بالتمام: في 3 أيلول 1921، غورو
نفسه، قرر إلغاء لبنان وضمه الى الدول السورية الثلاث، في وحدة كونفدرالية. وحده البطريرك الحويك نفسه أحبط مخططه. دعاه الى ذلك العشاء في بكركي، ليفاجئه بقول
لا لبس فيه: «إذا مسّت حفنة من تراب لبنان فسأشعلها ثورة في البلاد خلال 24 ساعة». سكت غورو يومها، وسكت بييتون اليوم، وعاد يغرق في أوراقه.
فتح ملف الجنرال ساراي. هذا الاسم يحفظه اللبنانيون. سأجد في يومياته حتماً ما يُعين على محاججة البطريرك. قبل أن يقع على تلك الحادثة المحظورة في صفحات تاريخنا
المدرسي. لم يكن ساراي يتورع عن إعلان حقده على الكنيسة ورجالها. ذات يوم كان يعقد مؤتمراً صحافياً. وكان بين سائليه صحافي كاهن معروف، هو الخوري لويس الخازن.
طلب الكلام ليسأل الحاكم الفرنسي عن سبب عدم زيارته البطريرك. فأجابه الجنرال بتعجرف: ومن يكون هذا البطريرك؟ قبل أن يتابع كلامه متوجهاً الى الخوري بازدراء:
أقترح عليك أن تخلع هذا الثوب الذي يظهرك بشعاً جداً. ولا تنس أن تحلق لحيتك الكثة أيضاً.
يكفهر أكثر فأكثر وجه دوني بييتون. يقلّب الصفحات السود بسرعة أكثر. يصل الى زمن دو مارتل. يفكر هامساً: هذا لم يكن عسكرياً، بل «كونت». لا بد أن سلوكه الشكلي
كان أكثر لياقة. يقرّب عينيه من الأسطر المتماهية مع الزمن. يلمح كلاماً عن مهرجان وطني ضخم في بكركي منتصف عام 1935، تنفرج أساريره. لا بد أن المناسبة داعمة
لفرنسا. ليكتشف أن اللقاء كان بدعوة من البطريرك عريضة، لإعلان الحرب ضد الانتداب الفرنسي، ولرفض التعاون مع «سلفه» السحيق دو مارتل. أما السبب، فكون المفوض
السامي كان قد جعل من لبنان مزرعة لعشيقته، زوجة الدبلوماسي البلغاري، التي صارت تعين الرؤساء والوزراء والنواب، وتجمع الأموال من كل طامعي السلطة والنفوذ تلك
الأيام. يكمل بييتون قراءته مدهوشاً: في المساء، بعد مهرجان بكركي الحاشد، لم يرف جفن للحاكم الفرنسي، بل قصد الظهور علناً مع عشيقته في مربع «كيت كات»، يرقص
ويثمل ويكيل الشتائم لبلد محكوم منكوب. وحدها عبارة عابرة في رسالة كتبها لعشيقته في اليوم التالي، عزت بييتون: «ألم أقل لكِ إن فرنسا مخطئة في سياستها بتقوية
البطريرك الماروني لدوام نفوذها في هذا الشرق؟».
يغلق سفير «الأم الحنون» الدفاتر العتيقة. ينتقل الى الراهن، يبحث عما يحاجج به الراعي، فتزداد مأساته: ماذا أحمل إليه؟ موقف وزير خارجيتنا لوي دو غيرنغو بإدانة
المسيحيين يوم كانت القوات السورية تقصفهم في الأشرفية؟ أم رسالة جاك شيراك رداً على قداس ماروني في باريس، حيث ذيل الدعوة ساخراً: «في النهاية أريد المشاركة
باسم المبادئ الكبيرة، فرغم كل شيء، لا نزال نحتفل بموت لويس السادس عشر». أم خطابه التاريخي كرئيس لفرنسا في ساحة النجمه في 4 نيسان 1996، متحدثاً عن سلام
سوري ـــــ إسرائيلي يوماً ما، هو «وحده ما سيسمح للقوات السورية بالانسحاب» من لبنان؟ أم تكراره لهذا الموقف حتى بعد الانسحاب الإسرائيلي في زيارة له الى بيروت
في 17 تشرين الأول 2002؟
كيف أفاتحه بموقفه من سلاح حزب الله؟ هل أذكّره بدور فرنسا في إنشاء «التحالف الرباعي» سنة 2005 بعد الانسحاب السوري؟ وكيف رتبت استخباراتنا الانتخابات والترشيحات،
حتى إنها جاءت بالسفير الإيراني في باريس بحماية فرنسية الى بيروت لإنجاز المهمة؟ أم أحدثه عن دور رئيسنا، «نيكولا الصغير»، كما تسميه صحافتنا، في اتفاق الدوحة
والتلزيم الجديد لسوريا، والأموال الليبية، والخلاف المنفجر مع دمشق، لمجرد أن بشار الأسد رفض إعطاء عقود الغاز السوري للشركات الفرنسية حصراً؟
يسقط دوني بييتون في يديه فوق الأوراق المتراكمة. يسمعه المارّون قرب سباق الخيل وهو يصرخ متسائلاً: ماذا لو ذكرني غبطته بأن الانتداب انتهى منذ سبعين عاماً؟
قبل أن يصمت على فكرة يتيمة أراحته: ماذا لو رفض استقبالي؟

No comments:

Post a Comment