Saturday, September 3, 2011

ما بين الوجود والشهادة للحقّ

"أنطاكية" ليست مجرّد مدينة بل أضحت رمزًا حضاريًّا ودينيًّا وتاريخيًّا. فـ"مدينة الله أنطاكية العظمى" هي المدينة التي وُلد فيها الاسم الذي بات يُعرف به أتباع
يسوع الناصريّ: "وفي أنطاكية دعي التلاميذ أوّل مرّة مسيحيّين" (أعمال الرسل 11، 26). ولا يمكن الحديث عن المسيحيّة في المشرق العربيّ من دون الحديث عن الأثر
الكبير الذي خلّفه اللاهوت الأنطاكيّ ورجالات الكنيسة الأنطاكيّة في العالم المسيحيّ قاطبةً.
تراجع دور "أنطاكية" المدينة، ولكنّها بقيت رمزًا يؤكّد على وحدة المسيحيّين القاطنين في الأوطان العربيّة المشرقيّة التي كانت تشكّل، وفق التقسيم الإداريّ
القديم، وحدةً جغرافيّة لكنيسة واحدة محلّيّة يرعى شؤونها مجمع مقدّس من أبنائها. نشأت الأوطان الحديثة بعد انهيار الدولة العثمانيّة، لكنّ الكنيسة بقيت أنطاكيّة
ولم تتقسّم على قياس الدول الوليدة، بل أصرّت على كونها عابرة للحدود وعابرة للأوطان. فوحدة الحال بين أبنائها المسيحيّين العرب، لبنانيّين وسوريّين وعراقيّين
وفلسطينيّين...، أقوى من أن تفصم عراها حدود سياسيّة أو إداريّة.
لا يأتي هذا الكلام من منطلقات حزبيّة أو من خيارات سياسيّة راهنة، بل هو متجذّر في وعي الكنيسة الأنطاكيّة لهويّتها وشهادتها. ولا يسع أحدًا أن يشكّك في ولاء
أبناء الكنيسة الأنطاكيّة لأوطانهم، ولكنّ معظمهم يرى أنّ ولاءه الوطنيّ لا ينفي بأيّ حال التزامه بقضايا باقي أبناء كنيسته المنتمين إلى كامل الأرض الأنطاكيّة.
من هنا، نرى أهمّيّة الدور الذي يمكن أن تؤدّيه الكنيسة الأنطاكيّة في الأحداث التي تشهدها أوطان المشرق العربيّ.
إبّان ما سمّي بعصر النهضة العربيّة في القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، تبنّى الأنطاكيّون الأفكار التي أنتجها عصر الأنوار الأوروبيّ. فرأوا في كلّ
من المواطنة والعلمانيّة والاشتراكيّة والقوميّة العربيّة أو السوريّة قواسم مشتركة، لغويّة أو حضاريّة أو ثقافيّة أو وطنيّة أو جغرافيّة أو اجتماعيّة أو إنسانيّة،
مع مواطنيهم وشركائهم في المصير الواحد من المسلمين وسواهم من أبناء المنطقة. ورأوا في هذه الأفكار بابًا إلى تحرّرهم من هيمنة الدولة المتلبّسة بالدين والتي
تحرمهم من حقوقهم الطبيعيّة في ممارسة مواطنتهم الكاملة من دون أيّ انتقاص. لقد كانوا رأس الحربة ضدّ الجهل والاستعمار والانتماءات الطائفيّة الضيّقة، وضدّ
هيمنة الفكر الدينيّ المتخلّف والخلط ما بين الدين والسياسة.
نلاحظ اليوم تقهقرًا على صعيد الدور المنوط بالكنيسة الأنطاكيّة وبالأنطاكيّين، وبخاصّة ما يتّصل بشهادتها ورسالتها القائمتين على التراث الأنطاكيّ الحيّ من
الأناجيل إلى كتابات الآباء ومعلّمي الكنيسة. ففي سياق ما يجري من أحداث ستغيّر وجه المنطقة وتقرّر مصير سكّانها يغيب، أو يكاد أن يغيب، صوت الكنيسة الصادع
بالحقّ.
منذ أربعة عشر قرنًا، ولأسباب شتّى، تستمرّ أعداد المسيحيّين المشرقيّين بالانحدار. وصمت الكنيسة، أو تواطؤها في بعض الأحيان، الناتج من الخشية الكنسيّة على
المصير الآتي للوجود المسيحيّ سيؤدّي حتمًا إلى موت شهادتها ورسالتها في عالم اليوم، ولن يحافظ، في الآن عينه، قطعيًّا على الوجود المسيحيّ. الخشية على الوجود
قد تؤدّي إلى خسارة الوجود والشهادة معًا. وإذا كان موضوع الوجود لا يعلمه إلاّ علاّم الغيوب، فما على "الأنطاكيّين" أن يخشوا على سوى فقدان شهادتهم. وما بين
الوجود والشهادة يبقى الرجاء بأنّهم يستطيعون أداء الشهادة من دون خوف على الوجود.

الأب جورج مسّوح     

No comments:

Post a Comment