Monday, September 19, 2011

كمال الصليبي والمسيحيون العرب
عبد الله بو حبيب
بناء على توصية من أخي الاكبر الذي سبقني الى الجامعة الاميركية في بيروت، درست تاريخ لبنان مع الدكتور كمال الصليبي، وسرعان ما تعرّفت عليه وتصادقنا تدريجياً،
خاصة بعد عودته من تدريسه في جامعة هارفرد، الى ان اصبحنا في معظم النصف الثاني من الستينيات صديقين حميمين نلتقي حول ايماننا بالقضية اللبنانية.
وعندما تجتمع بالصليبي يكون الحديث اكاديمياً ويربطه بالتاريخ والجغرافيا اللبنانية والعربية. وكان يملك الكثير من المعلومات عن الموارنة، خاصة أن اطروحته للدكتوراه
في جامعة لندن كانت عن «المؤرخين الموارنة في جبل لبنان». وكان الدكتور كمال دائماً يثقفني، وانا الماروني الكتائبي، عن تاريخي وكيف سكن الموارنة في وادي العاصي
وأتوا الى جبال لبنان هرباً من الاضطهاد، وكيف وفرت لهم وعورة البيئة التي لجأوا اليها الحماية وطبعت خصالهم، فهم ابناء شعب صلب يقاتلون بشجاعة لحماية ارضهم
وحرية معتقداتهم ويعرفون كيف يحمون انفسهم من التحولات السياسية في المنطقة.
وحملني الحديث المستمر عن لبنان والموارنة الى ان اطلب من الدكتور كمال ان يسجل معلوماته ومن ثم القاءها في محاضرات. وعند اكتمال موجزه عن «الموارنة في التاريخ»
في ربيع 1969، اتفقنا بأن يلقي نتائج بحثه في محاضرتين في بلدتي رومية وفي قاعة محاضرات مدرسة مار ضومط للراهبات الانطونيات. وحدث ذلك في صيف ذلك العام. وبعدها
أصدرت جريدة «النهار» المحاضرتين في ملف بعنوان «الموارنة ـ صورة تاريخية».
وقبل ثلاثة أشهر كنت في زيارتي الدورية للدكتور كمال عندما أخبرني بان «دار نلسن» اصدرت محاضرتيه في رومية في كتاب واهداني نسخة مذكراً بأحداث ذلك الصيف الحار
سياسياً، وكان مسروراً من مبادرة دار النشر لطباعة الكتاب وتوزيعه، معلقاً بـ «ان الموارنة يستحقون معرفة تاريخهم». كان هذا الكتاب الأخير للدكتور صليبي.
والكتاب عبارة عن مئة صفحة يروي فيها الدكتور كمال باختصار مسيرة الموارنة من وادي العاصي في القرن الخامس ميلادي لغاية تحقيق حلمهم بإعلان «دولة لبنان الكبير»
العام 1920. ويروي كمال عن اتصال الموارنة بالفرنجة (الصليبيين) للمرة الاولى في العام 1096، بعدما غزوا الشرق بحجة حماية الاراضي والامكنة المقدسة. وكالعادة
كان الموارنة منقسمين في علاقاتهم بالفرنجة وهم الذين استفادوا منهم فيما بعد فنقل كهنتهم العلم والثقافة من الغرب الى شعبهم، مما ساعدهم على ان يقودوا النهضة
العربية في القرن التاسع عشر. لكن الموارنة والمسيحيين كانوا يدفعون كذلك ثمن خلاف الغرب والشرق. فعندما اغار الفرنجة من قبرص على الاسكندرية (العام 1365) تعرض
المسيحيون وبينهم الموارنة لـ«اضطهادات عنيفة» من المماليك.
وشجّعني كمال في العام 1970 بمتابعة دراستي للدكتوراه في الاقتصاد في الولايات المتحدة. ومن الطبيعي، نظراً لضعف الاتصالات وقتذاك ومع بدء الحرب اللبنانية في
العام 1975 ان يخف الاتصال بيننا. وكنت التقي به كلما زرت لبنان وسمحت لي الظروف بالتنقل بين طرفي العاصمة. لكن اجتماعنا الطويل كان في نيسان 1983 بعد ان عينت
سفيراً للبنان في واشنطن. تمشينا حينذاك في طرق رومية لمدة ساعتين وكان كمال يريد تزويدي درساً في التاريخ. في ذلك الوقت كنا في بداية عهد الرئيس امين الجميل
وكانت المفاوضات دائرة بين لبنان وإسرائيل بمشاركة اميركية. وكان هناك في مناطق بيروت الغربية، وخاصة رأس بيروت حيث سكن كمال، خوف من ان يقدم عهد الشيخ امين
على صلح مع اسرائيل. وأخبرني كمال عن الانقسام في الامبراطورية الرومانية بين شرقية وعاصمتها القسطنطينية (اسطنبول) وغربية وعاصمتها روما. وبينما زالت الامبراطورية
الغربية بعد قرون قليلة نتيجة حروبها المتتالية مع الشعوب الاوروبية (البربرية) الناشئة، عاشت الامبراطورية الشرقية لغاية منتصف القرن الخامس عشر بسبب مرونتها
وتعايشها مع شعوب المنطقة التي بدأت بنهوضها في منتصف الالفية الاولى. وكالعادة كان كمال على حق، فالتاريخ دائماً يحمل لنا دروساً مفيدة.
كنت أزور كمال عندما أحطّ في عمان في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي ممثّلاً للبنك الدولي، المنظمة الدولية التي عملت بها قبل خدمتي سفيراً للبنان في
واشنطن (1990- 1983) وبعده الى حين تقاعدي منها في اوائل العام 2001. وكالعادة كان كمال يدرّ علي من علمه ومعرفته وخبرته عن الاردن والعلاقات الاردنية الفلسطينية
وعن لبنان والعلاقات المسيحية الاسلامية وحوار الاديان والحضارات، وكان كمال قد أسس في عمان بدعم من سمو الأمير حسن بن طلال المعهد الملكي للدراسات الدينية.
وعاد الاتصال بكمال بعد عودته من الاردن في العام 2004 ورحت أزوره دورياً في منزله ونتكلم بقضايا لبنانية وعربية. لقد أحسست ان كمال قد تغير، ولكن من لم يتغير؟
لقد تطور تفكيري وتطورت رؤيتي لمواضيع كثيرة منذ الستينيات ووجدت بعد عودتي الى لبنان بأن الجميع تغير! النظرة الى لبنان تغيرت! كنا نختلف في الستينيات على
وجود لبنان فلم يعترف القوميون جميعاً واليساريون بكل فئاتهم بلبنان وطناً سيداً حراً مستقلاً. ولكن الحرب والتطورات العربية والمواقف العربية الخجولة من الحرب
في لبنان، قرّبت اللبنانيين كثيراً في نظرتهم الى وطنهم. وكان افضل من عبّر عن تطورات سنوات الحرب وبعدها كمال الصليبي في كتاباته وأحاديثه. وعلى عكس المخاوف
التي كان يبديها قبل الحرب، اصبح كمال يطمئن المسيحيين دائماً بأن لا يخافوا على لبنان وعلى مصيرهم.
زرت كمال مع زميلي في «مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية»، الدكتور رغيد الصلح في بداية الـ 2010 لنطلب منه ان يكون المحاضر الاول في مؤتمر المركز السابع المتعلق
بـ«احياء الدور المسيحي في المشرق العربي». تحفظ كمال في البداية متسائلاً عن سبب عقد مؤتمر عن المسيحيين خاصة ان الخطر على المسيحيين من انفسهم. ولكن بعد اخذ
وردّ، سألني اين سيكون المؤتمر؟ وعندما قلت له في سن الفيل، اجاب بانه لا يستطيع تلبية طلبنا لانه منذ رجوعه من الاردن لم ولن يترك رأس بيروت. ثم اتفقنا على
ان يعقد المؤتمر في فندق قريب من رأس بيروت وقبل كمال لأنه «لا يرد طلباً» لعبدالله ورغيد، ولكنه أنذرني بأن ما سيقوله قد لا يعجبني.
واتصل بي كمال بعد مدة ليعلمني بأنه انهى تحضير كلمته فأعلمته معتذراً باننا اجلنا المؤتمر الى خريف 2010. وعندما زرته في منزله بعد اسبوع كان جداً مسروراً
عندما اعلمته ان غبطة بطريرك الموارنة، نصرالله صفير سيفتتح المؤتمر الذي سيعقد في قاعة عصام فارس في الجامعة الاميركية، وانتقلنا بعد ذلك الى السياسة. كان
كمال منتقداً للقيادات المارونية. لقد استمرّ المسيحيون لعقود في صراع مع المسلمين واليوم صداقتهم مطلوبة من المسلمين كافة. ان الصراع مع المسلمين ليس لمصلحة
المسيحيين الذين هاجروا بسبب ذلك الى ديار العالم ونجحوا، ولكن خسرهم لبنان. فماذا ينفع ان يربح الانسان العالم كله ويخسر نفسه؟ المسيحيون، يضيف كمال، لن يستطيعوا
البقاء في المشرق العربي بالقوة. الصراع العسكري يحملهم الى الهجرة. المسيحيون يبقون في الشرق بتميّزهم بأعمالهم. فهم عرب ولا عروبة من دونهم.
اما في محاضرته في المؤتمر الذي عقد في 25 ايلول 2010 والتي كانت المحاضرة الأخيرة له، سأل الدكتور كمال: «ما هو مصير العرب كشعب تاريخي في حال زوال النصارى
من بينهم»؟ وأجاب «ان العرب لن يبقوا عرباً على ارضهم التاريخية. بل ان الامر يتخطى ذلك بكثير ويتجاوزه. مع مثل هذا الزوال المفترض للنصرانية العربية، لن يكون
شيء في العالم اسمه عرب بالمعنى الكياني التاريخي الوجودي المطلق ومن دون تحفظ. وبعبارة اخرى، لن يبقى هناك في اي مكان من العالم كينونة عربية قائمة بذاتها
لا تتصف الاّ بعروبتها، ولا يختلط أمرها بالإسلام»، مشدداً ان «النصرانية في ديار العرب جاءت سابقة للإسلام بحوالى ستة قرون، مما يجعل منها أصلاً وليس فرعاً
للكينونة العربية التاريخية، على عكس الرأي السائد بين العامة من النصارى والمسلمين والقائل إن العروبة مرتبطة اصلاً بالاسلام».
وكان كلامه للمسيحيين ايضاً واضحاً ونقياً. سأل الدكتور الصليبي، «اما آن الاوان لنا، نحن العرب النصارى الذين ما زلنا نعتز بعروبتنا ان نقول، بكل صدق مع انفسنا:
مضى ما مضى؟ أمن الضروري ان نجعل من الامور التاريخية ... ما يعكر صفو عيشنا الجميل مع رهطنا او ربعنا العربي على تنوعه، وما أحلاه؟».
«هذا امر يبقى لكل واحد من نصارى العرب ان يقرره لنفسه ويدخله في قناعاته ويقينه: هل يريد ان يبقى في دياره التاريخية، مقيماً مع رهطه من العرب حيث كانوا، بتوافق
وتآلف أخويين، ام انه يفضل الهجرة الى الخارج ليعيش مع ربع اقرب اليه مسلكاً وروحية، كما يتصور؟ اذا قرر الهجرة فهذا شأنه وما لنا الا ان ندعو له بالتوفيق.
لكن اذا هو قرر ان يجعل من وجوده مشكلة لنفسه ولمجتمعه تتحدى الحل، فهذه مسألة أخرى لا بد ان يحاسب عليها امام التاريخ. وبالنهاية لن يصيب العرب المسيحيين حيث
وجدوا في بلاد المشرق الا ما يشاوؤنه او يصنعونه هم لانفسهم».
وعن وثيقة الطائف (1989) قال كمال: «منذ عشرين سنة تقريباً، عندما بدا للعرب من اقصى مشارقهم الى أقصى مغاربهم، ان النصرانية في لبنان توشك على الانهيار، تملّكهم
الخوف وهبّوا جميعاً لوضع حدّ لهذا الانهيار، لا بل لمنعه من الحصول فكانت وثيقة الطائف». وأضاف «لو لم يكن المسؤولون العرب في ذلك الوقت، مدركين كامل الإدراك،
في سريرتهم ان لم يكن جهراً، أهمية النصارى العرب، ونصارى لبنان تحديداً، للكينونة العربية التاريخية برمّتها، هل كان حدثٌ مثل مؤتمر الطائف يعقد أصلاً، بل
يستمر منعقداً حتى الوصول الى نتيجة تبقي النصارى في البلاد على رأس الهرم، وان بصلاحيات لا تستنفر غيرهم من اللبنانيين كما كان الواقع في السابق؟».
لقد اثارت محاضرة الصليبي الردود الايجابية الكثيرة وتلقى مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية مكالمات عدة تهنئنا على اختياره للتحدث في المؤتمر. ولقد أثرّت كلمة
كمال في العاملين في المركز فاستوحينا عنوان الكتاب الذي صدر عن المؤتمر من كلمته. وأصدر المركز في كانون الثاني العام 2011 كتاب «لا عروبة من دون المسيحيين»
الذي توزعه «دار النهار للنشر»، والذي يشكل اضاءة شاملة على واقع وجود المسيحيين في المشرق العربي.
الحديث مع كمال كان يشدّني دائماً الى التفكير بالواقع المسيحي وأُقاربُه مع واقع الاقليات في بلدان اخرى. فالمسيحيون منذ النهضة العربية في القرن التاسع عشر
منقسمون بين يسار ويمين ولكنهم يتفقون على هدفين اساسيين: البقاء في الشرق وخاصة ان باستطاعتهم السفر بسهولة الى عالم الغرب المسيحي، والمساواة، الركن الاساسي
في شعار الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر: حرية ومساواة وإخاء. ولكن الفريقين اختلفا على وسيلة الوصول الى هذين الهدفين. فاليسار أراد تحقيق هذه الأهداف
من خلال دعوته لشعوب المنطقة لاعتناق القومية واليسارية في اشكالهما المختلفة. اما اليمين فاتهم اليسار بان استيراد افكار غربية لا يفلح في هذا الشرق الذي اصبح
بمعظمه مسلماً بعد سقوط القسطنطينية العام 1453، ومن ثم يدعو اليمين الى تقوية المجتمع المسـيحي أمنياً وعسكرياً للحفاظ عليه.
انتمت قيادات وقواعد معظم اليسار المسيحي من الطوائف الشرقية المنتشرة في المشرق العربي بينما غلبت على اليمين الطابع اللبناني الماروني. وبالإضافة الى ذلك،
بينما اختلطت الطوائف المسيحية الشرقية مع المسلمين منذ فتح الاسلام في القرن السادس ميلادي، بدأ اختلاط الماروني بالمجتمع العربي وتدريجياً في القرن السابع،
عشر وتم الاختلاط الفكري الحقيقي مع العرب والاسلام في القرن التاسع عشر ميلادي.
وبعد ان فشلت وسيلة كل من اليسار واليمين في حماية نصارى المشرق، يتحاور المسيحيون راهناً في لبنان والمشرق العربي عن كيفية بقائهم شرقيين ويتساوون مع نظرائهم
المسلمين في السراء والضراء في زمن يتجه فيها الاسلام والمسلمون نحو التطرف الديني وعدم الاعتراف بالآخر المختلف.
لقد مرّ اللبنانيون الذين هاجروا الى بلاد العم سام بصعوبات جمة. اخبرني ابن عم لي ترك والده لبنان العام 1920، انه كان يُمنع على الكاثوليك دخول النوادي المحلية
(country clubs) الى ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبقيت نواد كثيرة لغاية السبعينيات لا ترحب بالأميركيين اليهود. وفي الحالتين، لم يهاجر اليهود الاميركيون
الى اسرائيل وابن عمي لم يرجع الى لبنان. لقد صبروا وناضلوا وربحوا.
وأختم مع ملاحظات الدكتور كمال عن مسيحيي الانتشار التي قالها في المؤتمر المذكور لمركز عصام فارس: «إن اعتداد العرب المسيحيين بالمهاجرين والمغتربين منهم هو
في نظري ظاهرة مساوئها اكثر من محاسنها، ان لم يكن لشيء فلأنه يشجع نصارى بلادنا ضمناً، وغيرهم، على الهجرة. والهجرة هي من أهم أسباب تناقص أعداد النصارى في
بلادنا نسبياً ومطلقاً، ان لم يكن اهمها. هذا التناقص في الاعداد هو السبب الاساسي للتخوف العام (وليس المسيحي فقط) من تراجع الدور المسيحي في جميع بلاد المشرق
العربي، والاصداء السلبية المنتظرة لمثل هذا التراجع».

([) مدير عام مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية.

No comments:

Post a Comment